من سيول إلى باريس، الأزمات السِّياسيَّة تُحلُّ بالأدوات الدُّستوريَّة وليس بالانقلاب على الدَّساتير

البرلمان الفرنسي يعيد اللَّيلة للدِّيمقراطيَّة وللنِّظام السِّياسي الفرنسي صوابهما في ليلة مشهودة، بعد محاولة الرَّئيس ماكرون المرور بقوَّة وتعيين وزير أوَّل وحكومة من الأقلِّيَّة الرِّئاسيَّة الَّتي خسرت الانتخابات التَّشريعيَّة السَّابقة لأوانها بعد قرار جل البرلمان منذ ستَّة أشهر بعج خسارة حزبه الانتخابات الأوروبية لتصعيد النُّواب الفرنسيِّين للبرلمان الأوروبي، ثُمَّ محاولة الوزير الأوَّل بارنيي منذ أيَّام المرور بقوَّة الفصل 49.3 من الدُّستور لتمرير مشروع ميزانيَّة الضَّمان الاجتماعي وميزانيَّة الدَّولة وقانون الماليَّة..

سقطت حكومة الرَّئيس الأقلِّيَّة بعد حصول لائحة سحب الثِّقة الَّتي تقدَّمت بها الجبهة الشَّعبيَّة الجديدة لقوى اليسار الرَّاديكالي والاشتراكي والشُّيوعي والبيئي على أغلبيَّة 331 صوتا من أصل 574، وهي أغلبيَّة ساحقة تجاوزت شرط الأغلبيَّة المُطلقة المطلوبة (288) وناهزت ثُلُثي أعضاء البرلمان، في تصويت غير قابل للتَّأويل..

والرَّئيس الفرنسي يقطع زيارته للمملكة العربيَّة السَّعوديَّة أين شارك في مؤتمر الدُّول الأطراف السَّادس عشر لاتفاقية مجابهة التَّصحُّر والجفاف، ويعود إلى قصر الإيليزي.. والوزير الأوَّل يستعدُّ لتقديم استقالته واستقالة حكومته وجوبا وتصريف الأعمال إلى غاية تعيين حكومة جديدة..

ولا أحد تقريبا من قادة الرَّأي السِّياسي والقانوني والدُّستوري والمدني والإعلامي في فرنسا أولى أهمِّيَّة للدَّعوات الشَّاذَّة الهامشيَّة بتجهيز "منصَّات صواريخ" الفصل 16 من الدُّستور الفرنسي المتعلِّق بالتَّدابير الاستثنائيَّة..

والجبهة الشَّعبيَّة الجديدة بريادة حزب "فرنسا الأبيَّة" بقيادة الزَّعيم الاشتراكي ميلونشون تخرج منتصرة من الأزمة بحرصها على مبدئيَّتها ومثابرتها على العمل الدَّؤوب للإقناع بجدِّيَّتها ومرونتها المبدئيَّة في إثبات جدارتها وأحقِّيتها في قيادة الحكومة وبنار التَّحالفات البرلمانيَّة لإنجاحها..

وأقصى اليمين الممثَّل في "التَّجمُّع القومي" لصاحبته لوبان البنت وحليفها سيوتي القادم من صفوف اليمين يلتحقون باليسار بعد تسارع نشق لملفات القضائية وفشل مقايضة الصمت بتمييع الملاحقات وبعد تنافر جزء من قاعدتها الشَّعبويَّة المناهضة للمنظومة مع تكتيكتها في مساندة الحكومة لحساباتها الانتخابيَّة الشَّخصيَّة والعائليَّة..

وأكبر خاسر في صراع "منصَّات الصَّواريخ" الدُّستوريَّة بين الرَّئيس والبرلمان هو الرَّئيس ماكرون الَّذي حشر نفسه وبلاده في الزَّاوية، بقرار حل البرلمان بصفة غير محسوبة، وبرفض الانصياع لإرادة الأغلبيَّة الشَّعبيَّة والبرلمانيَّة وإصراره على نكران الواقع، بالإضافة لاستحالة حل البرلمان دستوريًّا والدَّعوة لانتخابات تشريعيَّة سابقة لأونها قبل ستة أشهر، وصعوبة قبوله بالهزيمة والاستقالة والدَّعوة لانتخابات رئاسيَّة سابقة لأوانها..

وأكبر منتصر هو الشَّعب الفرنسي الَّذي فرض إقالة حكومة بلاده في سابقة هي الأولى من نوعها منذ سنة 1962، لعدم احترامها للإرادة الشَّعبيَّة..

عربيًّا وفلسطينيًّا، انهيار حكومة الأقلِّيَّة الرِّئاسيَّة في باريس يفتح الباب أمام تعيين وزير داخليَّة أقل استعداء للمهاجرين وبالأخص للعرب وللمسلمين، وتعيين وزير خارجيَّة أقل انحيازا للدَّولة القائمة بالاحتلال وأقل حنانا وعطفا على رئيس حكومتها مجرم الحرب ناتنياهو المطلوب للمحكمة الجنائيَّة الدّوليَّة..

تونسيًّا، وبالإضافة لإضعاف أحد أبرز حلفاءه الخارجيِّين ممثَّلا في الرَّئيس ماكرون، يجد الرَّئيس قيس سعيِّد نفسه محشورا من جديد في زاوية السُّؤال المتجدِّد حول مشروعيَّة التَّدابير الاستثنائيَّة التَّوسُّعيَّة والواسعة جدًّا الَّتي قام بتشغيل "منصَّات صواريخها" وأسقط بها النِّظام الدُّستوري والانتقال الدِّيمقراطي برُمَّته ليفرض دستوره الخاص ونظامه السِّياسي الخاص.. بل وإبقاءه غير المفهوم وغير المبرَّر وغير الدُّستوري وغير القانوني على سَرَيَان مفعول ذات التَّدابير الاستثنائيَّة التَّوسُّعيَّة وعدم إعلان نهايتها في خطاب للأمَّة بموجب توازي الإجراءات، رغم دسترة الحُكم المطلق والصَّلاحيَّات الرئاسية القيصريَّة بدون رقيب ولا رقيب وإلغاء مبدأ استقلاليَّة وتوازن السُّلطات وتحويلها إلى مجرَّد وظائف في خدمة السُّلطات الرِّئاسيَّة المطلقة في دستور الرَّئيس، في سياق وطني من العزوف واللَّامبالاة وضعف الانخراط الشَّعبي والسِّياسي في المغامرة الرِّئاسيَّة..

في حين أثبتت التَّجربة الكُوريَّة الجنوبيَّة والفرنسيَّة في اليومين الأخيرين أنَّ الأزمات الدُّستوريَّة المعقَّدة لا تحل بالاستسهال والإسهال الشَّعبوي ولا بالنَّهل السَّلَفِي من النَّظريَّات "الشّْميتيَّة" البالية للفقيه الدُّستوري "كارل شميت"، الفيلسوف النَّازي والفقيه الدُّستوري النَّازي للنِّظام النَّازي الآري العُنصري المُنهار للفِهْرِر "أدولف هتلر" غير المأسوف عليه، كما تنبَّأ بانهياره زعمائنا المُجاهد الكبير الزَّعيم عبد العزيز الثّعالبي وتلميذه المُجاهد الأكبر الزَّعيم الحبيب بورقيبة رحمهما الله وطيَّب ثراهما وجزاهما عن تونس خير الجزاء..

بل تحلُّ الأزمات الدُّستوريَّة والسِّياسيَّة بالأدوات الدُّستوريَّة المناسبة، ودون إفراط ولا تفريط، وفي كنف احترام الدُّستور والدِّيمقراطيَّة والشَّرعيَّة القانونيَّة والمشروعيَّة الإجرائيَّة والأخلاقيَّة لدولة القانون والمؤسَّسات والحرص على عُرى الوحدة الوطنيَّة، وليس خارجها..

"فنُّ التَّاريخ الذي تتداوله الأمم والأجيال… هو في ظاهره لا يزيد عن الإخبار عن الأيَّام والدُّول والسَّوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، علم بكيفيَّات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، جدير بأن يعدَّ في علومها خليق."، الفيلسوف الفقيه السِّياسي المؤرِّخ ومؤسِّس علم التَّاريخ والاجتماع عبد الرَّحمان ابن خلدون الزَّيتوني التُّونسي،

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات