لكل شعب من شعوب الأرض روحه الخاصة به، وإن كانت هناك صفات عامة تتسم بها الشعوب. والمقصود بروح الشعب جملة من أشكال وعيه بالحياة والوجود وردود فعله على المصائب، وموقفه من الأحداث التي يمر بها، وجملة القيم التي تحرك سلوكه. وروح كهذه إنما تتكون عبر الزمن وتغتني عبر الزمن وتتغير عبر الزمن. وليس من قبيل المبالغة الحديث عن روح الشعب السوري التي هي روح بلاد الشام وإن كان يشترك في صفات كثيرة مع أمته. لن أدخل في التاريخ، حسبي أن أصف بعض الراهن من هذه الروح.
أجل تبرز روح السوري في طقوس تمرده الشعبي، طقوس يختلط فيها الأمل بالفرح بالحزن بالألم بالكبرياء. والدارس لهذه الطقوس يكتشف حقيقة وعي السوري بالحياة. يخرج السوريون إلى الساحة أو الشارع للتمرد كأي شعب آخر، لكنهم سرعان ما يرسمون صورة جديدة للروح المتمرد.
ها هم يصوغون أولا الأغنية، الأغنية سواء كان لها مؤلف أو لم يكن، تنطوي على كل عناصرها الجمالية، الكلمة، اللحن، الصوت. ها نحن أمام التمرد غناءً وأناشيد، الحناجر كلها تشترك في صوت واحد وفي موسيقى واحدة. الكلمات ذات البعد السياسي تلبس لبوساً بسيطاً من اللغة الحميمة. ويخترع اللازمة ” سوريا بدها حرية “. لم يكن القاشوش حالة فريدة، بل لكل قرية ومدينة قاشوشها الخاص.
لم ينتظر الشعب شاعراً كي يصوغ له القصيدة، بل صاغ هو الكلمات بكل عفوية وصدق ودون تكلف. الفلاح السوري حين يحصد يغني، وحين يحرث يغني، السوري حين يعمل يغني، وحين يحزن يغني وحين يفرح يغني، السوري حين يشيع الشهيد يشيعه بالغناء والأكف التي تستجيب لصوت الموسيقى.
الأيدي التي تستجيب لصوت الموسيقا لا تصفق لأحد، بل تعزف، الأيدي التي تعزف ترتفع وتعلو فوق الرؤوس كي تُسمِع السماء موسيقاها بكل كبرياء.
ثم ينتفض الجسد بحركات الرقص الجماعي الأخّاذة، الأيدي تتشابك أولاً فتؤلف حلقات سلسلة واحدة، قريبة من الأعناق، لتصبح الأجساد جسداً واحداً، وتصير حركة الأجساد كلها حركة جسد مفرد، جسد دائري يستعير من الريح والبحر حركته، كأنما هو ريح تهب من كل الجهات وأمواج تتلاحق بلا شواطئ. وعلى أنغام الحناجر يتمايل الجسد استجابة لموسيقاها. وحين يسقط أحد التموزيين شهيداً يدخل قلب الجسد الدائري مرفوعاً على الأكف التي تقوم بدورها في حركة دائرية تحاكي الأجساد الملتحمة. ويغني ” سكابا ” يستعير من التراث الشعبي هذا المقام الحزين ويغنيه بالكلام الجديد ” سكابا يا دموع العين سكابا عل شهدا سوريا وشبابا “، لم يشر إليه أحد أن يستعير مقام ” الصبا ” أكثر مقامات الموسيقى العربية حزناً. بل عاد إلى وجدانه. وراحت الأجساد تتمايل كأنها الدمع.
يصرخ السوري يا حوران نحنا معاك للموت يا حُمص نحن معاك للموت…. ليؤكد وحدة الشعب السوري الذي أعلنها بالهتاف، لكنه هذه المرة يمنحها الموسيقى الفلكلورية الحورانية. ويزيد عليها ” نغم الموت ولا المذلة ” تأكيدا لكرامته التي لن يتخلى عنها.
يعبر السوري في طقوسه هذه عن فلسفته بالحياة، والتي تقوم على حب الحياة، وقدرته على الإحتفال بها دائماً، وتظهر الحرية التي خبأها في داخله والتي ظن الجلاد بأنها غادرته، منتقماً بحسه الجمالي وسموه الأخلاقي من الأصفاد التي كبّلت أياديه زمناً طويلاً. منتقماً من المسيرة والهمروجة واللافتة الميتة واللغو والكذب الذي حُمِّل عليه طويلاً.
شيئان يخافان روح السوري، حبيبَ الحياة وطقوسه الخلاقة: الدكتاتور وآلاته الصماء وأبواقه الكريهة، والأوباش أصحاب الرايات السوداء. شيئان يمثلان طقوس الموت والعدم، سارقي الزمن والفرح.
الساحة التي جعلها السوري مكاناً يمارس فيه طقوس حريته المتمردة يحولها المجرم إلى هدف لبرميل موت يسقطه كائن تحول إلى شيء وآلة، ويجعل منها المجرم القادم من الكهف والغارق في الوسخ إلى مكان لقطع رؤوس الأحرار.
ويشهر السوري روحه في كل مرة يظن أعداء الحياة أنها قد غادرته ويعود إلى طقوسه لا يرضى عن انتصار الحياة بديلاً.