استعمال الفصل "الفخفاخي" للمحاكمة عن بُعد غير قانوني وغير دستوري

استعمال الفصل "الفخفاخي" للمحاكمة عن بُعد غير قانوني وغير دستوري ويخرج "الفصل 141 مكرر جديد" من ّمجلَّة الإجراءات الجزائيَّةّ من سياق "مكافحة جائحة كورونا (كوفيدـ19)" إلى سياق "جائحة قضايا التآمر (تآمرـ119)" و يحيي فصلا قانونيا استثنائيا مؤقتا طارئا ومتروكا وفي عداد العدم، وينتهك مبادئ المحاكمة العادلة ويخرق مقومات دولة وسلطة القانون.

اعتمدت القاضية فوزية الرزقي رئيسة قضاء جفال للوظيفة على المحكمة الابتدائية بتونس على "الفصل 141 مكرَّر جديد" من "مجلة الإجراءات الجزائية" لخرق القانون بإقرار بدعة "المحاكمة عن بُعد" في قضايا التَّآمر التسعة عشر بعد المائة (119)..

والفصل المذكور أعلاه (141 مُكرَّر جديد) فصل دخيل على مجلة الإجراءات الجزائيَّة التونسية.. تمت إضافته في ظروف استثنائية، وبمرسوم استثنائي ومؤقت من طرف رئيس حكومة الرئيس الأولى إلياس الفخفاخ، المرسوم عدد 12 المؤرخ في 27 أفريل ،2020 في سياق التفويض البرلماني بموجب القانون (التفويضي) عدد 19 لسنة 2020 مؤرخ في 12 أفريل 2020 "يتعلق بالتفويض (المؤقت) إلى رئيس حكومة الرئيس في إصدار مراسيم لغرض مجابهة تداعيات انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19)"..


…

ونص القانون التفويضي على موضوع التفويض وهو "مجابهة تداعيات انتشار جائحة كورونا (كوفيدـ19)" لا غير، ولم يتعلق بتاتا بقضايا التآمر المنشورة (تآمرـ119)؟؟؟ حتى يحصل اللبس لدى قضاء الوزيرة جفال للتدابير الاستثنائية للعدل في حكومة الرئيس الثالثة والرابعة والخامسة والأولى والثانية والثالثة للتدابير الاستثنائية..

تفويض مؤقت محدود في الزمان وفي المكان وفي المضمون لمجابه جائحة كورونا:

ونص البرلمان في تفويضه المؤقت في الفصل الأول على مدة المراسيم وحددها بشهرين فقط (60 يوما): " الفصل الأوّل ـ طبقا لأحكام الفقرة الثانية من الفصل 70 من الدستور، يُفوّض بمقتضى هذا القانون إلى رئيس الحكومة إصدار مراسيم لمدّة شهرين ابتداء من تاريخ دخوله حيّز النفاذ، لغرض مجابهة تداعيات انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19) وتأمين السير العادي للمرافق الحيوية"..

وأخضع المراسيم المؤقتة للرقابة البرلمانية، حيث ورد بالفصل الثَّاني: " تُعرض المراسيم التي سيتمّ إصدارها وفق أحكام الفصل الأول من هذا القانون في أجل عشرة أيام من انقضاء المدة المحددة بنفس الفصل على مصادقة مجلس نوّاب الشّعب..

وأردف في الفقرة الثانية من الفصل الثاني: "وفي صورة عدم عرض هذه المراسيم من قبل الحكومة في الآجال المنصوص عليها بالفقرة الأولى من هذا الفصل، يتعهد المجلس بذلك تلقائيا". وفي الفقرة الثالثة: "تتم المصادقة على كل مرسوم على حدة."..

وهو ما لن يتم للأسف الشديد.. لا حكومة الفخفاخ عرضت مراسميها "الفخفاخية" للرقابة البرلمانية.. ولا البرلمان تعهد من تلقاء نفسه ببسط رقابته علي... وترك تنقيحا جوهريا لمجلة الإجراءات الجزائية بدون رقابة برلمانية، في إخفاق جسيم في القيام بدوره كسلطة تشريعية.. فبينما كان نواب البرلمان "يتنهاشون" كان "بعضهم" يتآمرون على الجمهورية و"ينخرطون" في تقويض أركان دولة القانون..

أمَّا عن المرسوم الذي جاء كأغلب المراسيم "الفخفاخية" إمضاء وختما ونشرا ومجهولة الهوية تحرير، جاء في صيغة استنساخية للمراسيم الفرنسية آنذاك، ومنها فكرة "المحاكمة عن بعد"، رغم أنها لم تجرأ على تنقيح "دائم للمسطرة الجزائية لم تمس من مجلة الإجراءات الجزائية ولا من مبدأ الحق في التقاضي وفي الطعن بالبطلان، على عكس "البدعة الفخفاخية" التونسية التي خط طريقها الماكر والخطير أستاذ قانون من ورمز من رموز مدرسة أقصى اليمين القانونجي التونسية..

وهذا التنقيح القانوني لمجلة الإجراءات الجزائية المحددة في الزمن ما كان له أن يكون أصلا، وكان بالإمكان الاكتفاء بسن إجراء استثنائي مؤقت دون المساس ببنية المجلة.. إلا أن النوايا المبيتة "لبعضهم" سربت مثل عنه "الأقفال" و"الخزعبلات" باعتماد "الحيل الشرعية" الفاقدة للشرعية وللمشروعية، لغاية في نفس "يعاقبتعا" وفي غفلة من الشعب..

وفي كل الحالات، فقد أصبح اليوم هذا التنقيح اللاقناوني واللادستوري في عداد العدم، بحكم إنتفاء مسبباته الاستثنائية المتعلقة بجائحة كورونا، وبحكم عدم خضوعه لرقابة وتأشير السلطة التشريعية صاحبة الاختصاص الأصلي في التشريع في كل المسائل المتصلة بالحقوق والحريات..

ووجب على السلطة التشريعية إلغاءه تماما وشطبه من مجلة الإجراءات الجزائية..

وهو ما لا يتعارض مع فتح نقاش تشريعي برلماني ومجتمعي لتعصير العدالة واستعمال التكنولوجيات الحديثة، وخاصة في القضاء المدني والتجاري والإداري وفي القضاء الجزائي في مادة الجنح الخفيفة، وهي الأولى باعتماد تقنيات "المحاكمة عن بعد" إن لزم الأمر، وليس قضايا "التآمر" ولا "قضاء التآمر"..

شروط تطبيق "الفصل 141 مكرر جديد" كفصل مؤقت واستثنائي لمجابهة جائحة كورونا (كوفيدـ19):

ورغم دخوله اليوم في حكم العدم، فإن الفصل الاستثنائي المذكور جاء بشروط لم تتوفر في القرار المهتز إجرائيا والمعدوم قانونيا بتنظيم جلسات "قضاء التآمر" بتقنية "المحاكمة عن بعد"..

فقد نص المرسوم "الفخفاخي" ذاته صراحة في الفقرة الأولى للفصل 141 مكرر جديد الذي أدخله دخيلا على مجلة الإجراءات الجزائية:

الفصل 141 (مكرر):

"يمكن للمحكمة أن تقرّر من تلقاء نفسها أو بطلب من النيابة العمومية أو المتهم، حضور المتهم المودع بالسجن بجلسات المحاكمة والتصريح بالحكم الصادر في شأنه، باستعمال وسائل الاتصال السمعي البصري المُؤمّنة للتواصل بين قاعة الجلسة المنتصبة بها المحكمة والفضاء السجني المجهز للغرض، وذلك بعد عرض الأمر على النيابة العمومية لإبداء الرأي وشرط موافقة المتهم على ذلك."

تنص هذه الفقرة الأولى على ثلاث شروط:

ـ شرط توفر وسائل الاتصال السمعي البصري المُؤمّنة للتواصل بين قاعة الجلسة المنتصبة بها المحكمة والفضاء السجني المجهز للغرض .

ـ شرط عرض الأمر على النيابة العمومية لإبداء الرأي.

ـ شرط موافقة المتهم: " وشرط موافقة المتهم على ذلك".

فيما بينت الفقرتان الثانية والثالثة شروطا أخرى في حالة "الخطر المُلمّ":

"ويجوز للمحكمة في حالة الخطر الملم أو لغاية التوقي من إحدى الأمراض السارية أن تقرر العمل بهذا الإجراء دون التوقف على موافقة المتهم المودع بالسجن."

"يكون القرار الصادر عن المحكمة باعتماد وسائل الاتصال السمعي البصري كتابيا ومعللا وغير قابل للطعن بأي وجه من الأوجه، ويُعلم به مدير السجن المعني والمتهم ومحاميه عند الاقتضاء بكل وسيلة تترك أثرا كتابيا في أجل لا يقل عن خمسة (5) أيام قبل تاريخ الجلسة، وللمحامي في هذه الحالة الخيار بين الدفاع عن منوّبه بقاعة الجلسة المنتصبة بها المحكمة أو بالفضاء السجني الحاضر به منوبه."

حيث أضافت الفقرتان الثانية والثالثة شروط:

ـوجود "الخطر المُلمّ" أو ضرورة "التَّوقِّي من إحدى الأمراض السَّارية"،

ـ تعليل القرار "يكون القرار مُعلَّلا".

وهي الشروط الجوهرية التي لم تتوفر في قرار رئيسة المحكمة الابتدائية بتونس في قضايا (تآمرـ19)، بالإضافة لعدم انطباق الفصل 141 مُكرَّر جديد خارج السياق الذي جاء به أي " لغرض مجابهة تداعيات انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19) فقط..

فقه القضاء الدستوري يعتبر استعمال المحاكمة عن بُعد دون موافقة المتهم انتهاكا لمبدأ العدالة الجنائية ولحقوق الدفاع:

وبالعودة للمرسوم الفرنسي الأصل الذي استنسخ عنه المرسوم "الفخفاخي" التونسي، فإن المجلس الدستوري الفرنسي أصدر قرارًا يقضي بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة الخامسة من الأمر الحكومي رقم 2020-303 الصادر في 25 مارس 2020 (شهرا قبل المرسوم "الفخفاخي")، والذي يتيح إمكانية اللجوء إلى وسائل الاتصال عن بعد في المحاكمات الجنائية دون الحاجة إلى موافقة الأطراف المعنية.. واعتبر المجلس الدستوري الفرنسي أن "استخدام تقنيات الاتصال السمعي البصري دون موافقة المتهم ينتهك مبدأ العدالة الجنائية وحقوق الدفاع.. كما أشار إلى أن "هذه الإجراءات، التي تم تبنيها استثنائيًا لمواجهة تداعيات جائحة كوفيد-19، لا يمكن أن تستمر نظرًا لتعارضها مع المبادئ الدستورية، مؤكدًا أن أي تعديل لقواعد المحاكمة يجب أن يراعي الحقوق الأساسية للأطراف المعنية، بما في ذلك ضمانات الدفاع وحضور المتهمين فعليًا أمام المحاكم"..

وجوهر الفقه الدستوري في المسألة هو أن فهم هذا الفصل "الفخفاخي" كونه "يمنح السلطة المطلقة للنيابة أو المحكمة أن تقيم المحاكمة عن بُعد من دون موافقة المُتَهم إنَّما هو فهم قاصر لا يحترم مبادئ المحاكمة العادلة ومغزى هذا النص من حيث أساس سَنِّه"

الإجراء "الفخفاخي" المحصَّن من الطُّعون خرق لمبدأ الحق في التقاضي:

والفرق بين الأمر الحكومي الفرنسي والمرسوم "الفخفاخي" التونسي أن الأول خضع لمراقبة القضاء الدستوري، في حين أن "الفخفاخي" لم يخضع لا للرقابة الدستورية المنعدمة ولا للرقابة التشريعية للبرلمان..

كما أن "الفخفاخي" حصن مرسومه أو حصنوه له من الطعون فذيلوه بالجملة التي رأسناه لاحقا في الأمر(ور) 117 للتدابير الاستثنائية الكتابية التوسعية، بقلم رمز مدرسة أقصى اليمين القانونجي التونسية الأستاذ أمين محفوظ الأستاذ المؤطر للأبحاث وللأطروحة الجامعية التي لم تر النور للأستاذ قيس سعيد مساعد القانون الدستوري سابقا، والمتعود (أمين محفوظ) على تحصين الانحرافات والانجرافات القانونية والتوجهات الاستبدادية الخطيرة من الطعون: " وغير قابل للطعن بأي وجه من الأوجه "..

وهو ما يمثل خرقا لمبادئ المحاكمة العادلة وللحق في التقاضي، ذكرت به المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب في حكمها ضد الدولة التونسية في القضية التي رفعا الأستاذ إبراهيم بلغيث لإبطال الاستفتاء على دستور الرئيس دستور 17 أوت 2022، في نقدها للمرسوم 117 المتعلق بتدابير استثنائية والمحصَّن من الطُّعون أمام وسائل الانتصاف المحلِّيَّة بطريقة تقوِض أركان العدالة والإنصاف..

الخاتمة: قرار غير قانوني وغير دستوري ولا يحترم حتى الشروط الجهورية للمرسوم "الفخفاخي"

وفي كل الحالات، فإن قرار اعتماد المحاكمة "عن بعد" قرار غير قانوني وغير دستوري بسبب أن:

ـ تنقيح مجلة الإجراءات الجزائية بمرسوم حكومي أمر غير مقبول وغير لائق وغير قانوني وغير دستوري،

ـ التنقيح بمرسوم جاء في سياق استثنائي مؤقت لمجابهة جائحة كورونا فقط (كوفيدـ19) ولا يمكن بأية حال من الأحوال تطبيقه خارج سياقه، وبالأخص في قضايا التآمر (تآمرـ119)،

ـ أن المتهمين لم يوافقوا على إجراء "المحاكمة عن بُعد"، في حين أن موافقة المتهم ضرورية بنص المرسوم "الفخفاخي" المستنسخ من الأمر الحكومي الفرنسي وبنص فقه القضاء الدستوري الفرنسي مصدر البدعة قبل نسخها ومسخها،

ـ أنه غير مسبَّب في خرق لمبدأ ضرورة تبيان "الخطر المُلِمّ" (تشبه الخطر الدَّاهم في الفصل 80 من دستور 27 جانفي 2022)،

ـ أنَّه غير معلَّل في خرق مبدأ ضرورة تعليل القرار،

كما أن هذا القرار يخرق مبادئ ومقومات وضمانات المحاكمة العادلة، ويهضم حقوق الدفاع، وينتهك مبدأ علنية المحاكمة وحق الجمهور والمراقبين في متابعة أطوارها، ويضرب بعرض الحائط بمبدأ فردية الجريمة والعقوبة عبر حشره وبطريقة جماعية "شيلة بيلة" لرقم قياسي من الخلط "البوخلوط" وصل إلى جمع 119 قضية تآمر (تآمرـ119) وبدون تعليل انفرادي لكل قضية ولوضعية كل متهم على حدة ولمركزه القانوني والخطر المُلِمّ بسببه أو لحمايته شخصيًّا..

وهو في الأخير، فهو قرار ينافي ما استقر عليه الأوَّلون والآخرون قانونا وفقها، من إعلاء القاعدة الأصولية للتأويل السليم والفهم القويم من أن "القاعدة الأساسية في التأويل أن النص الذي يمس من حقوق المتهم لا يُؤوَّل إلَّا تأويلا ضيِقا"..

وقديما قال أبرز رجالات الإصلاح في تونس سيدي أحمد بن أبي الضِّياف: "الحُكم (المُلك) نوعان، حُكم (مُلك) مُطلق، وحُكم (مُلك) مقيَّدٌ بقانون"

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات