غزّة : النّموذج الأمثل الآن للتّوق الأخلاقي إلى التحرّر من نظام عالمي لا عدالة فيه

يبدو أنّ عالما " قديما " يتداعى في كنف العنف و الفوضى، عالما تشكّل بعد الحرب العالمية الثانية في ضوء " الخجل " من توحّش القوى الكبرى الذي بلغ ذروته في إلقاء القنبلة الذريّة، وأدّى إلى تأسيس منظّمات كالأمم المتحدة ومجلس الأمن والمفوضيّة السامية لحقوق الإنسان، من أجل التخفيف من أصالة الشرّ وعبثه بالإنسان، ومن أجل الحفاظ قليلا على ماء الوجه الإنساني. ذرّ رماد على العيون.

هذا " الخجل" المحتشم أمام القتل الذي أيقظه بعد الحرب العالمية أدب كبير ( بيكيت، ميلر، فانون، كامو..) واجه اللّامعقول واللّامعنى، يتلاشى اليوم أمام فظاظة تحالف المال المتغطرس والتّكنولوجيا المجنونة، أمام أوليغارشيا منفلتة، وأمام " عمى أخلاقي " تصبح فيه مآسي البشر مجرّد خبر لا يستدعي الفعل الأخلاقي. عالم جديد يراد له أن يكون بشرٍّ محض، تتخلّى فيه الإنسانيّة عن أحلامها الكبرى بالحريّة والعدالة، وعن روح المقاومة.

بعبارة أوضح: عالم لا غزّة فيه، باعتبارها النّموذج الأمثل الآن للتّوق الأخلاقي إلى التحرّر من نظام عالمي لا عدالة فيه، والتحرّر من كيان صهيونيّ عنصريّ يجسّد النّموذج الأمثل ل " العمى الأخلاقي " والإنساني، ولتوحّش ليبيرالي تمثّل " إسرائيل " ذراعه القويّة، عالم جديد بلا مقاومة بعد أن تمّ الاتّفاق بين " ممالك البدو العربيّة " وبين "مملكة ترامب " الأمريكيّة على الانتهاء من هذه المعضلة. لذلك يراد اليوم تفكيك العالم وإعادة تركيبه وفق هندسة الإخضاع وإفراغ البشر من الحلم والقيمة، ليصبحوا مجرّد ذوات فرديّة معزولة ومحاصرة.

هندسة في الحقيقة لا تدرك طبيعة الإنسان وجوهره القائم على التمرّد والعصيان، فلئن كان قدر الإنسانيّة أن تمرّ من شقاء إلى شقاء، فإنّ قدرها أيضا أن تمرّ من مقاومة إلى مقاومة، صراع أبديّ لا بدّ منه لإنقاذ الرّوح، حتّى وإن كانت المقاومة " أفعالا صغيرة مستمرّة لتفكيك النّظام من الدّاخل "، وهي أيضا هندسة لا تدرك مآلات التّهجير والتوسّع وما قد يسبّبه من أزمات حادّة في المنطقة قد تفضي إلى اهتزازات كبرى مدمّرة للممالك القائمة. إنّه المجهول الذي يذهبون إليه بسبب هذا العمى وهذه الفظاظة والكبر والعته.

وقياسا على قول هولدرن في الحديث عن بؤس العالم الذي يسير نحو الخراب: ما تبقّى يصنعه الشّعر. نقول بيقين: ما تبقّى تصنعه المقاومة. المقاومة بكلّ تمثّلاتها الممكنة.

المقاومة / الشّعر أعادا خلال سيرورة التّاريخ، بناء العالم إثر كلّ خراب، ولن يكفّا عن ذلك مادام للإنسان قلب ينبض وروح توّاقة، ومادام " من يسيطر على المعنى، يسيطر على العالم " كما علّمنا غرامشي.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات