أبي

أجده وأنا أزوره أمام باب البيت يمسك بيديه المعروقتين المرتعشتين مقصّا كبيرا ويشذّب أغصان شجرة نبتت على الرّصيف وكبرت على مدى سنوات فامتدّت أغصانها وتطاولت. يصيبني الهلع وأخشى سقوط غصن عليه وقد تداعى جسد الثّمانين حولا فأسرع إليه لكنّه يلتفت إليّ ويقول: " ابتعدي يا طفلة كي لا تلوّثي ثيابك.. هذه الشّجرة صارت تمنع العابرين من المرور سالمين على الرّصيف وقد تخدش أغصانها أحدا في وجهه أو تصيب أفنانها عين طفل.. ولا بدّ من تثقيفها.. كما عليّ أن أشذّب ما على السّور من أشجار كي لا تؤذي أحدا ". لا أجرؤ على أن أطلب منه إحضار مختصّ في الشّذب وهو الذّي ألف ذلك ويجد فيها لذّه وأكتفي بالصّمت. وأفكّر: " كم في هذا العالم من أذى يا أبي وما أجملك وأنت تحاول أن تكفّ الأذى عن البشر بما تستطيع ". ولا يغفل بعد ذلك عن كنس ما سقط على الرّصيف من أوراق وأفنان والإلقاء بها حيث يجب.

في البيت تستقبلني عصافيره وقططه ووالدتي تتذمر من إرهاقه لنفسه في تثقيف الأغصان ومن عناده. أقول لها: أتركيه يا ماما أبي شاب. تقول لي: " تمهّلي سأروي لك كلّ شيء". ولكنّه لا يصغي إليها ويسألني عن أحوالي ثمّ يشرع في حديث مطوّل عن السّياسة. يحضر لي آخر ما قرأ من مقالات. هو لا يكفّ عن تشذيبي أيضا. تشذيب أفكاري وآرائي ومواقفي. أنا الشّجرة الملأى بالنّتوءات والأغصان المائلة. يطلب رأيي في المقالات ويقول: رحم اللّه أبا العلاء المعرّي. صرنا كما يقول: كلّ يعظّم دينه ** لست أدري ما الصّحيح؟.

أمّي تحاول تغيير الموضوع فقد مجّت السّياسة. تقول لي: " هو لا يكفّ عن الحديث في السّياسة.. ليل نهار.. قولي لي: أجد وزنك قد زاد. ألم أقل لك تجنّبي أكل المعجّنات والحلويّات وقلّلي من السكّر؟ اصعدي فوق وزني نفسك وتعالي ". أضحك وأنا أستجيب لأمرها في حين يحتجّ والدي قائلا: " دعيها يا امرأة. ابنتي على قول الشّاعر الجاهلي: مهفهفة بيضاء. هي فقط رضراضة قليلا ولم تصبح بعد خدلّجة ولا عركركة.

تحدجه والدتي بنظرة استنكار وتقول له: أنا أريدها في قوام أنجلينا جولي. أو مذيعات الرّاي أونو متاع إيطاليا.. يا حسرة.

ـ أنجولينا جولي يا ماما؟ ههههه عليّ أن أنقص 15 كيلوغراما على الأقلّ كي أصير في رشاقتها. طيّب سأحاول. خلال أسبوع واحد سأصير في قوام أنجلينا جولي وسأبدأ من الآن . لا أكفّ عن الضّحك ولكنّها تلتفت إليّ فجأة وتقول: أنت جائعة. طبخت اليوم كسكسا لذيذا وقلت: لعلّها تمرّ بنا اليوم فتركت لك صحنا شهيّا. سأذهب لإحضاره.

ـ والحمية يا ماما؟ الحمية؟

ـ أووو دعنا الآن.. كلي الكسكسي ثمّ ابدئي حميتك في بيتك.

يأخذنا الضّحك بعيدا أنا ووالدي ويعود بي إلى حديث السّياسة. سؤاله التّقليدي: ما هي الإصلاحات الجديدة في التّعليم؟ قضّى من عمره أربعين سنة في التّعليم ولم يستطع أن ينسى يوما وكأنّه معنيّ بأمر التّعليم. يعيد رواية تجربته في التّعليم للمرّة الخمسين. وكيف كلّف بعد تخرّجه من جامع الزّيتونة بتكوين قسم مختلط في ريف السّاحل وكيف سعى في بداية الستّينات إلى إقناع الأهالي بتدريس بناتهم وأبنائهم وكيف كان يحيط بالتّلاميذ من النّواحي الاجتماعيّة والنّفسيّة فضلا عن التّدريس. لا يملّ رواية ذلك. كان ذلك فخره. ولا أملّ من الاستماع فهو فخري أيضا. كما لا أملّ حديثه عن تجربته في جامع الزّيتونة وإضراب الجوع والإضراب عن بعض الشّيوخ الذّي قام به الطّلبة والمعركة مع بورقيبة التّي يعيدها على سمعي كلّ مرّة.

يأتي صحن الكسكسي ساخنا شهيّا فألتهمه مع صوت الستّ التّي ينتظر والدي ميعادها كلّ ليلة مع التّاسعة. تجلس أمّي إلى جانبه فهي ساعتهما المقدّسة بعد أن تضع الشّاي الأخضر وبعض الفاكهة. يذهل والدي عنّا ويسافر مع الستّ أمّا والدتي فتقترب بحذر منّي هامسة: هل تعرفين ماذا فعل هذا الأسبوع؟ أخرجني من البيت مرّتين: مرّة لشراء عصفورة بعد موت الأنثى في القفص وبقاء الذّكر وحيدا. قال لي: سيموت لو ظلّ وحيدا. يجب إحضار أنثى له وعلى جناح السّرعة. يا ابنتي وأسرعنا أنا وأختك بالسيّارة من مكان إلى مكان بحثا عن الأنثى الجميلة بالمواصفات التّي يريد: بيضاء رشيقة وبصوت جميل.

قلت لها ضاحكة: وعيون زرقاء وعنق طويل ومنقار منتفخ.. أنجولينا جولي العصافير.

ـ ولم نعد إلى البيت إلّا بعد أن وجدنا العصفورة المنشودة.

قلت: الحمدللّه. لا شكّ هو سعيد الآن. ما أجمل الحبّ.. بين العصافير.. ماذا فعل أيضا؟

تكتم ابتسامة وتقول: القطط..

ـ القطط.. ـ ما بها؟

ـ كلّ أسبوع يشتري للقطط ثلاث كيلوغرامات من السّمك. ثمّ أخيرا قال: القطط ملّت السّمك وتريد اللّحم.

يشتدّ ضحكي: وما المشكل يا ماما؟ ألا تملّ القطط وتضرب عن الأكل؟ من حقّها أن تجدّد. هل نأكل نحن المعكرونة كلّ يوم؟

قالت: آه يا ابنتي. ربع ميزانيّة الأكل في البيت ذهبت في سمك القطط. صار مثل ذلك الرّئيس السّابق الذّي قيل والعلم عند اللّه إنّه أنفق في القصر مليون دينار على السّمك .

أقهقه وأنا أقول لها: ماما وأنت صرت تبالغين وتطلقين الإشاعات مثل ذلك الخبير " متاع الشّفافيّة "..

تضحك بصمت على طريقة الهاتف الهزّاز كي لا يتفطّن إليها فهي تريده أن يظلّ متوهّما غضبها ثمّ تردّد مع أمّ كلثوم وهي تشدو: " وتغضب لمّا أقلّك يوم يا ظالمني ".

يلتفت والدي وقد أنهت الستّ وصلتها الغنائيّة وكأنّه يخرج من زمن أبديّ ويقول: عمّ كنّا نتحدّث؟ آه عن التّعليم.. قولي لي: ما الجديد ؟ أكرّر لوالدي ما كنت أقول. يقول لي وقد قفزت قطّة إلى أريكته: " أرأيت كم هي وديعة؟ هي أكثر أنسا من الشر.. البشر صاروا أكثر أنانية وتوحّشا وغطرسة.. هل تذكرين هذا القول لأحدهم: " هنا حيث طرد اللّه، استلب الإنسان ".. استلب الإنسان وتاه بعد أن أفرغنا روحه.. لذلك أقول التّعليم ثمّ التّعليم.. ".

كم أشعر بجهلي أمامك يا أبي !

تقول أمّي: آه.. والدك لا يزال يحلم بتغيير العالم .. لو ترشّح للانتخابات لفاز..

أقول مازحة: وما المانع؟ أليس رئيسنا في التّسعين؟ مازالت لأبي الفرصة.

ـ تسعين؟.. أنا لم أنتخبه ولن أنتخب المرّة القادمة إلّا شابّا " ترنكوشا " مثل رئيس وزراء كندا..

أعود ممتلئة بالضّحك وبالمعنى وبالكسكسي وبالأفكار.

أجلس إلى مكتبي وجملة والدي لا تزال تتردّد في ذهني وأبدأ كتابة مقال: هنا حيث طرد اللّه.. استلب الإنسان..