لم أنس ذلك اليوم منذ ثلاثة وثلاثين سنة ذات أيلول أسود حين أعلن والدي ( حفظه اللّه ) قراره الحاسم: مقاطعته عيد الإضحى ل 29 سبتمبر 1982. كنّا صغارا ولكن لا أزال أذكر ملامح وجهه الذّي يطفح حزنا وكانت قد مرّت على مجزرة صبرا وشاتيلا قرابة العشر أيّام فقط.
كانت مشاهد ذبح الشّيوخ وبقر بطون النّساء واغتصابهنّ قبل قتلهنّ وصور الأطفال الغارقين في دمائهم أكبر من كلّ قدرة لديه على العيد. وكانت أسماء ميناحيم بيغن واسحاق شامير وأريال شارون تتردّد أمامنا لترتبط بمجزرة هي من أكبر المجازر في تاريخ البشريّة. في تلك اللّحظة تعلّمنا الدّرس الأوّل: أنّ العيد فرح إنسانيّ مشترك أو لا يكون، لا يختزل في طقوس بل هويّته المعنى وأنّ الدّين هو المعنى، ارتواء الرّوح بالمعنى. كان يرسّخ فينا هويّة إنسانيّة تتجاوز الطّقس الدّيني في حدّ ذاته لتبلغنا مدارات كونيّة وكان منظلقها فلسطينيّا. ومنذ تلك اللّحظة صار العيد لدينا حدثا هلاميّا بلا معنى ما لم يرتبط بالفرح المشترك للبشريّة التي تعيش آلاما كبرى لم تفلح كلّ إيديولوجيّات العالم في تحريره منها.
لم نفكّر وقتها وإلى الآن هل هذا القرار حلال أم حرام؟ لم نكن معنيين بالسّؤال فقد ترسّخ لدينا منذ البداية أنّ المسمّى " الحرام " هو ما يؤذي الإنسان وأنّ " الحلال " هو سعادة البشر. وأنّ الدّين مشروع أخلاقيّ كبير به يمكن للإنسان تحمّل أعباء هذا الوجود المشترك وصنع الرّجاء لديه. يتّسع أفق الرّجاء كلّما اتّسع أفق الدّين وامتلأ بالمعنى الإنسانيّ الكبير فيصبح الإنسان خفيفا من أوجاعه كفراشة. ويضيق الرّجاء كلّما ضاق حيّز الدّين وتحنّط وابتعد عن أسئلة الإنسان المثقل بالهموم والباحث في تشظّيه عن السّعادة.
هكذا فهمنا الدّين بعيدا عن التّحديدات والتّصنيفات والتّجاذبات بين إسلام تونسيّ وإسلام " مستورد " وإسلام متفتّح وآخر متعصّب وإسلام عصري حداثي وآخر سلفي رجعي ظلامي..
اليوم وأنا أختزن كلّ هذه الصّور في ذاكرتي أشعر أنّي لست صديقة للعيد وإن كنت المرحة بطبعي توّاقة إلى جعل كلّ الأيّام أعيادا لكنّي أجد اليوميّ الإنسانيّ مرير ومؤلم لكثير من البشر وأنّ تدبير الفرح يصبح تمرينا عسيرا لمن تربّى على هويّة إنسانيّة تعتقد في المشترك وترتوي من جماليّة الوجود الرّحب الذّي يتّسع للجميع وينعم بالاختلاف . لكنّ الوجود اليوم يضيق بالإنسان الذّي يفرّ من جحيم إلى آخر أشدّ وتتلقّفه البحار والمرافئ وحرّاس الحدود وأيدي الطّغاة والبغاة
مع ذلك نحبّ العيد ونحبّ ما نتوهّمه فرحا وننتظره لا كما انتظر أبطال غودو غودو. فأنفسنا تأبى العدم واللّاشيء وتهفو دوما إلى أن تزرع شيئا ما وسط عيد عربيّ إسلاميّ صار يأتي متعثّرا خجلا وسط محارق وآهات كبيرة.