المثّقفون المثقّفون مستاؤون.. حائرون.. يتساءلون مصير البلاد كيف يكون؟
المثقّفون الذين يتصدّرون المشهد الثّقالفي منذ سنوات طويلة يصدرون بيانا يطالبون فيه بتكوين إطار سياسيّ جديد.. بعد انقسام الحزب الذّي ساندوه للقضاء على خصمهم المرعب: الإسلاميّن.. هذا العدوّ الذّي لن يعترفوا به ولو " خرج من جلده ".. وخرج الخصم من جلده.. و لم يعترف مثقّفونا به .. فكانوا كالبخيل المروزيّ مع العراقيّ في نادرة الجاحظ.. خلعت النّهضة عمامتها وقلنسوّتها وكساءها ولم يعترفوا بها وظلّت العدوّ الأوّل ..
المثقّفون الذّين تخلّوا عن جوهر المعارك الحقيقيّة من أجل تغيير النّظام اكتفوا بمساعي تعرية الخصم في اتّجاه ضربه ولكنّ انقطاعهم عن المجتمع جعلهم أصواتهم دون جمهور.. الجمهور هناك في قاع المجتمع.. منشغل عنهم بطاحونة الشّيء المعتاد.. في حين يقيم مثقّف " المقهريش " وحيدا .. كثير الكلام.. عديم الممارسة.. عدوّ الزّحام.. رحم اللّه الشّيخ إمام..
والمثقّفون يعيدون نفس السّرديّة النّمطيّة حول ضرورة " قطع الطريق أمام التلاعب بتونس وبمستقبل أبنائها من قبل من لا هدف له غير السلطة أو من يعمل على تغيير نمطها المجتمعي في الاتجاه السلفي والرجعي " وهي نفس السّرديّة: سرديّة قطع الطّريق التّي تجنّدوا لها لإسقاط حكومات " رجعيّة " وحلّ " مجلس تأسيسي رجعي " ومن أجل حكومة " حداثيّة " وبرلمان " حداثي " ورئيس " حداثي " ومن أجل " تونس حرّة ديمقراطية تقدمية مدنية حداثية ".. ولكنّها يجب أن تكون تونس بلون واحد فالدّيمقراطيّة في هذا التصوّر " الحداثي جدّا " تعني إقصاء المختلف الذّي يسبّب كلّ البلاء في البلاد " بزرع الفتنة بين المواطنين " وهو نفس الخطاب الإقصائي الذّي مارسته منذ عقود باسم الدّفاع عن النّمط المجتمعي الحداثي الذّي تجد في الدّين كما فهمته هي خطرا عليه.. فكانوا مثقّفي هندسة المجتمع الذّي أفرز الإنسان المهدور القابل " للدّوعشة " و " الحرقة " وكلّ أشكال الانتحار الماديّ والمعنوي..
مثقّفونا المثقّفون لم يغيّروا شيئا من رؤاهم ومن حداثتهم الإقصائيّة التي تشرّبوها من موجات حداثيّة استعلائيّة وإقصائيّة غربيّة ولم يواكبوا فتوحات معرفيّة جديدة لحداثة تواصليّة ديكولونيانيّة تؤمن بقدرة الشّعوب على التطوّر الذّاتي ولم يكتبوا سرديّة جديدة. توقّفوا في لحظة زمنيّة ولم يستطيعوا عبور نهر التّاريخ فغرقوا في القاع حيث الرّسوب..
وفي الأثناء يعلو صوت المفكّر الكبير هشام جعيّط هادرا وسط هذا العقم الفكريّ محرّكا عجلة الفكر كاسرا تحنّطه مفتّتا صخرة الرّؤى المتكلّسة ساخرا من مكر " المثقّفين " ومن الزّنازين التّي يقيمون داخلها.
في زعزعة للثّوابت يقول المفكّر هشام جعيّط: "داعش» اليوم يضم 30 ألف عنصر مقابل مليار ونصف المليار مسلم في العالم، وحتى لو كانوا مائة ألف فإن ذلك لا يجب أن يمس الإسلام، فالمسلمون بشر عاديون وهم أيضا يلهثون وراء الحياة، والدليل الاكبر تلك القوافل المؤلفة من اللاجئين السوريين الهاربين من الحرب والموت الى أوروبا".
ويقول أيضا: " ليس هناك معنى للحياة اليوم في العالم الحديث، حتى الاديان سقطت. الاسلام وجهة مليار مسلم وهناك في الاسلام من يتعرض للقتل ومن يقتل غيره. في البلدان المتقدمة الانسان هو انسان اللذة ولذلك هناك من يرفض ذلك.."
هو نقد الحداثة التّي أفرزت أيضا إنسانها المهدور القابل بدوره " للتّدعوش " جرّاء فقدان المعنى " " هناك حيث طرد اللّه استلب الإنسان " فتاه الإنسان الغربي أيضا وفي تيهه وجد في هذه التّنظيمات الإرهابيّة قضيّة ما ولو هميّة يدافع عنها..وجد دورا له في الحياة..وذكر المفكّر أمثلة كثيرة لشباب فرنسيّ ومن بلدان غربيّة متعدّدة ينجرفون إلى القتل بسبب الفراغ في القيم..
ألا يجب العمل على إيجاد المعنى والقيم بدل الإيغال في أطروحات اللّامعنى وفي العبث بالتّعليم وبالثّقافة وفي نزعات التّموقع وإسقاط قوالب " الحداثة " الجاهزة التي أنتجت هندسة الخراب؟
هؤلاء المثقّفون الذّين يتصدّرون المشهد الثّقافي بفضل إعلام سوّق لهم كثيرا خاصّة قبل الانتخابات الأخيرة من أجل دعم حزب حمل من البداية بذور فنائه نظرا لتركيبته الهجينة التّي يعترفون بها اليوم لن يمكنهم إنقاذ البلاد بدعواتهم الجديدة التّي يصرّون فيها على نفس الثّقافة الاستئصاليّة.
ألذلك يصرخ المفكّر هشام جعيّط " قناعتي أنه لم يكن للمثقف أي دور، وليس لنا مثقّفين.. لدينا أساتذة جامعيين وموظّفين ينهشون بعضهم البعض، وهذا ينطبق على الجميع وعلى كل القطاعات. أسال بدوري: أين هم المثقفون؟ ومتى كان للمثقف دور في بلادنا؟ "
شهادة هشام جعيط وصمة عار في جبين المثقّف..
فهل يقرأ المثقّف؟ وهل يقرأ المثقّف للمثقّف؟ هل يقرأ الأساتذة الجامعيون والموظّفون الذّين ينهشون بعضهم البعض للمفكّر الشّجاع؟ للصّوت المختلف؟ للسّرديّات الجديدة؟ أم أنّ نزعة الاستعلاء و" الأصوليّة الحداثيّة " والخوف من سماع أصوات غير أصواتهم تدفعهم إلى عدم القراءة خاصّة حين يتعلّق الأمر بنقد يكسر وهم بعض أطروحاتهم المتهافتة؟
بعيدا عن التّعميم.. ومع تقدير أسماء أبدعت في مجالاتها ولكنّها ظلّت مراوحة حيث هي في تصوّراتها للمجتمع والسّياسة وللدّين يظلّ الأمل قائما في حركات ثقافيّة تتشكّل الآن وتتلمّس طريقها بأسماء لا يسوّق لها الإعلام لكنّها تكتب المختلف وتؤسّس للمغاير وتكسر النّمطيّة وتقفز على أسوار الإيديولوجيا وتفتّت صخور الأفكار المتكلّسة في كلّ المجالات: الثّقافة والمجتمع والسّياسة والدّين وهي أسماء استطاعت أن تصوغ تصوّرات جديدة غير الفهم المحنّط للحداثة والدّين.. وهي أقرب إلى الإنسان هنا ملتحمة بجوهر القضايا تخوض معارك حقيقيّة وتسير تبعا لذلك على حافة الهاوية التّي قد تدفعها إليها نخبة تعتبر الوطن وطنا لها وحدها.. فإذا هي مهدّدة أبدا بالاغتيال المعنوي أو بالتّهميش والإقصاء من المثقّف نفسه الذّي يرى نفسه وحده مثقّف البلاد..
يعيش أهل بلدي.. ويعيش المثقّف.. " بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح.. يفبرك حلول المشاكل قوام .. "
رحم اللّه أحمد فؤاد نجم في ذكرى رحيله..