بعد الحريق السوري الكبير، ستتغيّر أشياء كثيرة في جغرافيا العالم السياسية وفي جغرافية أفكاره أيضا. سيستأنف العالم سيره "غير الطبيعي" على أشلاء ملايين الضحايا وعلى أشلاء القيم الإنسانية التي خطت البشرية خطوات مهمّة لتكريسها قيما مشتركة لكلّ سكّان الأرض، قبل موجة الارتداد العنيفة التي يشهدها العالم منذ انطلاق موجة المطالبة بالحرية في كامل أرجاء العالم العربي. سيتمّ قريبا توزيع "أرباح" سياسيّة مضمّخة بدماء السوريّين على الفاعلين الكبار الذين يديرون شؤون العالم. وسيخرج العرب بحيرة أكبر حول مستقبله ما بقي من كياناتهم السياسية القديمة التي كانوا يحلمون بتوحيدها فإذا بها تزداد تفتّتا وانهيارا، وسيخرجون بأسئلة أكبر حول كلّ أفكارهم القديمة، وربّما سيصيبهم التعب من طرح كلّ أنواع الأسئلة.
مقدّمة:
في سوريا الآن يوجد كلّ العالم، وفيها يتشكّل فصل جديد كئيب من تاريخه. ومنها يقع إعادة توزيع لأدوار المتدخّلين هناك وإعادة صوغ مفردات الخطاب السياسي العالمي طبقا لنتائج تفاعلات ثماني سنوات من العنف والتدمير الوحشيّين. توحّش لا يرى العالم حيثيّاته الدمويّة حمل عنوان "الحرب على الإرهاب".
شعار رفعته أمريكا وروسيا والنظام السوري وإيران واسرائيل وبقية التوابع. حملوه كلّهم وكان عليهم أن يصنعوا على الميدان شكلا فيزيائيا لهذا "الإرهاب" ليحاربوه بأحدث أدوات القتل. ومن ثمّ اختصروا لغة العالم وجغرافيته في مصطلح مائع مخاتل وزائف ومدمّر للوعي والتفكير والسياسة وحقوق الشعوب في الحرية والحياة.
هل يتجه العالم إلى تهدئة ما في سوريا لإعادة ترتيب خريطة القوّة على أنقاض الدمار الكبير هناك؟
هل تنتهي قريبا صلوحية الشعار الشبحي "محاربة الإرهاب"، أم يجري توسيع وظيفيّته الفعّالة إلى مجالات جغرافية جديدة، ويتمّ تمديد حالة الفراغ النظري والانهيار القيمي على مستوى العالم لتسويغ جرائم جديدة قادمة تتغذّى منها آلة الهيمنة الرأسمالية المعولمة؟
هل نستطيع الآن تقييم حصاد الحرب العالمية على أرض سوريا والجهد التدميري الخرافي الذي صبّته آلة الاستعمار العالمي وكلّ أدواتها ومن ضمنها النظام المخابراتي الدموي على سوريا ؟
ونتساءل أخيرا عن علاقة ما لتونس "البعيدة" جغرافيا بما يجري هناك في سوريا؟
من ربح الحرب في سوريا؟
لتبرّر "انسحابها" المفاجئ من سوريا، أعلنت أمريكا هزيمة تنظيم داعش، هكذا اضمحلّ هذا التنظيم العملاق فجأة بإعلان أمريكي كما ظهر فجأة. التنظيم الذي برّرت أمريكا من قبل تدخّلها العسكري بمحاربته، تماما كما فعلت كلّ من روسيا واسرائيل وإيران، وكما برّر النظام إجرامه الجنوني ضدّ شعبه،(التنظيم الذي صنّعته- رغم أن مادّته البشرية والفكرية محلّية طبعا- ورعته مخابرات أمريكا (واسرائيل) وموّلته أدواتها الخليجية وأحكمت إدارتها نشره في خريطة المنطقة العربية)
.لكنّ أمريكا ترامب الغريبة سرعان ما تداركت إعلان انسحابها لتصحّح أن لا جدول زمنيّا قريبا لخطوة بهذا الحجم. ميدانيّا هي ومعها روسيا تتغاضيان فعليّا عن سيطرة جبهة النصرة على مناطق واسعة قريبة من شرق الفرات، وفي مرمى نيرانهما. ومقابل تهديد ترامب لتركيا بتدميرها اقتصاديّا إن هي تجرّأت على ضرب حلفائه السابقين الأكراد بعد أن تركهم للعراء، يتوصّل معها لترتيبات أمنية ميدانية لتنسيق انسحابه المزمع.
النتيجة الحالية على الأرض هي حالة ترقّب عالمي لشيء ما، لا يملك أيّ طرف لوحده تحديده فضلا عن فرضه على أرض ممزّقة الأوصال، في ما يشبه التهيئة لحلّ دولي قريب تتقاسم فيه كلّ من أمريكا وروسيا وتركيا واسرائيل النفوذ في سوريا لا عبر تقسيمها إلى كيانات جغرافية منفصلة، كما كان مطروحا في لحظة ما من الحرب السورية، بل عبر نظام سياسي تتمّ الآن رسكلته وتأهيله لوظيفة يبدو أنها ستكون استمرارا بشكل ما لوظيفته القديمة ما قبل الثورة، أي التخصّص في رفع شعار الممانعة والمقاومة الشعاراتية مستغلاّ "صموده الأسطوري" في وجه "مؤامرة كونية" استهدفته وفشلت في إسقاطه.
لكن هل انتصر النظام السوري فعلا؟ بل ماذا بقي من النظام السوري الذي اختار سياسة الأرض المحروقة وفتح الباب أمام الاحتلالات العالمية المختلفة لأرضه؟
لا يجادل عاقلان في أنّ النظام السوري العسكري المخابراتي الفرداني القمعي فقد كلّ شرعيّات الاستمرار في حكم ما تبقّى من سوريا منذ سلّم كلّ القرار الوطني إلى الروس والإيرانيّين. وأنّ الرعاة الدوليّين للحلّ السياسي في سوريا حائرون فعلا في طريقة تأهيل بنيته السياسية لتناسب مرحلة إدارة الخراب الشامل الذي بلغته سوريا، تأهيل يتعثّر رغم تعدّد المنصّات الدوليّة من جينيف إلى أستانة إلى سوتشي وتعدّد المبعوثين الأمميّين إلى سوريا (أربعة إلى حدّ الآن).
من العبث والبذاءة الأخلاقية أن يعلن النظام وأنصاره الإيديولوجيّون أنهم حقّقوا نصرا عظيما وهم يرون أشلاء الضحايا من الموتى والمشردين والمهجّرين بالملايين. قد تقنعهم الإيديولوجيا الدموية أن كلّ ذلك كان ثمنا ضروريا للصمود في وجه "مؤامرة كونية" استهدفت نظاما فريدا في وطنيّته، لكنّ كلّ مطّلع من قريب على الارتهان الكلّي لبقايا نظام الأسد لحماته الدوليّين يدرك بذاءة هذه الحجّة وسفهها.
لم ينتصر أحد في سوريا، ربما باستثناء الكيان الصهيوني الذي أدار على امتداد سنوات الحرب لعبة التوحّش والجريمة في حقّ شعوب العرب وقيم الحقّ الإنساني الكوني بتنسيق مباشر مع أمريكا وروسيا، بحيث نجح في منع الثورة من الانتصار وحافظ على أشلاء نظام وهمي لا يملك من قراره الوطني شيئا، واستدرج حزب الله- الذي كان يمكن أن يكون رصيدا وطنيا عربيا خالصا بعد 2006- إلى جريمة تدمير الثورة تحت الشعار المهزلة "محاربة الإرهاب" ليفقده كلّ مصداقية عربية ويكشف ولاءه المطلق لمشروع قومي فارسي يتخذ من الطائفية عقيدة رسمية له.
* الكيان الصهيوني سيحرص دائما أن يبدو أمام العالم مهدّدا في وجوده، تلك عملته منذ تأسّس بشكل غير طبيعي احتلالي استيطاني عنصري، لكنّه عمليّا يربح في سوريا كما لم يربح من قبل. يربح تدمير النظام الرسمي العربي نهائيا بعد أن حافظ هذا الأخير لعقود على الحد الأدنى الشكلي في اجتماعه على دعم الحق الفلسطيني.
حالة التطبيع العربي مع الكيان الغاصب صارت واقعا عمليا يطال كلّ النظام الرسمي العربي بين معلن وشبه معلن. عنوان هذا الربح الصهيوني ما سمّي ب"صفقة القرن" التي حُفظت وقتيّا بسبب المصاعب المرحلية التي يمرّ بها عرّاباها الأكبران: محمد بن سلمان (بسبب جريمة الخاشقجي الهيتشكوكيّة وسلوكه البارانويي في الداخل)، والسيسي الذي تبيّن لداعميه-إسرائيل تحديدا- أنه "أهبل" أكثر ممّا تتحمّله السياسة.
عسكريّا يدها مطلقة تماما في سوريا تضرب متى تشاء وأين تشاء وبالحجم الذي يخدم أجندة الغياب شديد الحضور. والذين يروّجون لامتلاك بقايا النظام القدرة على ردع الطيران الصهيوني بفضل الصواريخ الروسية يروّجون لوهم سخيف. الدليل أن اسرائيل تفاوض روسيا على بقاء القوات الإيرانية على بعد أمتار فاصلة بينهما في سخرية فجّة من إيران ومن العالم الذي يصدّق أن اسرائيل مهدّدة بالزوال بين لحظة وأخرى.
* أمريكا أيضا تربح في سوريا، رغم ارتباك سياستها الخارجية حتى قبل مجيء "غريب الأطوار" ترامب، أي منذ تردّدَ أوباما في تسليح المعارضة السورية تسليحا فعّالا بقرار مخابراتي صهيوني واضح يقضي بمنع الثورة من إسقاط النظام نهائيّا والحفاظ على توازن الضعف والخراب بينه وبين معارضته لصالح الكيان الصهيوني.
تربح أمريكا لأنها تدار من طرف شركات التصنيع العسكري التي تضخّ أموال تجارة الأسلحة في أوردة القوة الأمريكية المنتشرة في كل العالم، مال تدفعه بسخاء يصل حدّ السفه والعته أدوات خليجيّة غبيّة تجلس على ثروات خيالية وتبدّدها في عمالة معلنة ومخزية للاستعمار العالمي. تربح أمريكا رغم ما يبدو عليها لأوّل وهلة من ضعف بسبب ضحالة قيادتها الحالية، فهي ما زالت تنهب ثروات المنطقة كما تشاء، ولم "يكبر" المنافس الروسي الغرّ بعدُ بالحجم الذي يؤهّله لمنافسة نفوذها العالمي في المدى القريب.
والأهمّ في الموقف الأمريكي أنه يستفيد بشكل ما من "رعونة" ترامب، رعونة تضفي غموضا شديدا على حقيقة الخطة الأمريكية في المنطقة. خطّة تكثر بشأنها الفرضيات بعد إعلان الانسحاب من سوريا للتمركز على بعد كيلومترات في العراق فيم يشبه إعادة انتشار تمهيدا لخطوة قادمة يرجّح مراقبون أنها قد تكون ضربة عسكرية مفاجئة لإيران. ضربة لو حدثت، وهذا غير مستبعد بالمرّة، ستغيّر خريطة المنطقة والعالم وتعيد خلط أوراق المشهد العالمي وتوجيه التاريخ الحديث وجهة جديدة.
* هل تربح روسيا من تدخّلها المغامر في سوريا في أوّل خروج لها إلى العالم؟
نعم ولا. نعم لأنها تستعيد لأوّل مرة دورا خارجيّا تريده جسرا لحضور أكبر وفاعل على مسرح السياسة الدوليّة. وهي منذ تدخّلها العسكري سنة 2015 تدير باقتدار عناصر المشهد السوريّ المركّب: بقايا النظام تمنعه من السقوط ليظلّ مصدر الشرعية القانونية الشكلية لتدخّلها من جهة، إعادة نشر الجماعات الجهادية الوظيفية بعقد هدنات "مشبوهة" معها تنتقل بمقتضاها تلك الجماعات من مكان إلى آخر عبر بوابات روسية في حافلات مكيّفة تشقّ البلاد براياتها السوداء تحت أعين العالم.
التنسيق المباشر مع الغريم التقليدي الأمريكي الحاضر/الخفيّ بكثافة لا فقط في شمال سوريا شرق الفرات حيث تتموقع القوات الكردية، بل في كل سماء البلاد عبر "التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة"، تنسيق بلغ أوجه في خطة "خفض التصعيد" وفي تعايش مثالي فيم يشبه تقاسم الأدوار وفي تفويض فعلي أمريكي لروسيا للإشراف على مفاوضات الحلّ النهائي.
ربحت روسيا أيضا بتجريب أسلحتها الجديدة لإثبات قدرتها على المنافسة في سوق السلاح العالمية. ربحت حضورا مباشرا في حوض البحر الأبيض المتوسط عبر مرفأ طرطوس الاستراتيجي.
لكنّها في المقابل تتورّط في حرب استنزاف لمقدّراتها الاقتصادية الهشّة وكأن الولايات المتّحدة استدرجتها إلى المستنقع السوري قبل أن تكتمل لديها عناصر القوّة التي تمكّنها من حضور خارجي يناسب حجم طموحات قيصرها الامبراطورية. مؤشرات ميدانية تؤكّد استعجال روسيا للحلّ السياسي في سوريا وإنهاء الحرب لاستخلاص ثمن حمايتها للنظام عبر الفوز بأكبر نصيب من عقود عمليّة إعادة الإعمار.
العمليّة التي ستموّلها طبعا دول الخليج (السعودية والإمارات وقطر أساسا) بتكليف أمريكي، في إعادة تدوير لرأس المال المالي الذي صار المقوّم الأساسي للاقتصاد العالمي والامبريالية الجديدة.
تتحمّل روسيا نزيفها اليوميّ هناك في صمت وتكتّم كبيرين لتضمن النصيب الأكبر من عقود إعادة الإعمار وربّما سلطة توزيع هذه العقود باعتبارها الكفيل الحالي لما بقي من النظام. والسؤال هو إلى متى ستتحمّل؟
* إيران تظنّ أنّها تربح ربحا كاملا في سوريا في سياق طموحها القومي الذي لم تعد تخفيه وتدفع من أجله أثمانا بشرية كبيرة من مرتزقة ميليشياتها المعبّأة مذهبيّا. وفي حمأة المناكفة "الوجودية" مع الكيان الصهيوني تروّج آلتها الدعائية الإيديولوجية أنها حقّقت نصرا استراتيجيّا فريدا مكّنها من إنقاذ حليفها الأكبر، ومن التقدّم الميداني على أرض المواجهة "الحتميّة" القادمة مع العدوّ الصهيوني، ودليلها أن قواتها تتمركز على مرمى حجر (لا مدفع) من قوّات "العدوّ" في انتظار الساعة الصفر.
وتروّج أنّها فتحت طريقها البرّي إلى البحر المتوسّط مرورا بالعراق وسوريا في خطوة تراها من مخيالها الامبراطوري الفارسي القديم ضرورة استراتيجية لدور عالمي يناسب حجمها.
إيران الإسلامية، حالة سياسية فريدة في العالم يتداخل فيها القومي والديني والمذهبي، وسلوكها في سوريا وقبله في العراق يُقيّم من زوايا عديدة، ومصدر الالتباس فيه أنها ترفع شعار مواجهة الامبريالية الأمريكية وحليفتها الصهيونية، لكن من منظورها القومي المذهبي الخاصّ لا على أساس القيم الإنسانية المشتركة التي صاغتها البشرية في طور حداثتها العقلانية "الكونيّة" (والتي ستظلّ طموحا مشروعا لكلّ شعوب الأرض رغم كلّ المؤاخذات الموجهة لمنظومة حقوق الإنسان الكونية باسم الخصوصية والطريق الخاصّ إلى الحداثة). لذلك لا يمثّل موقفها العدائي الوجودي من اسرائيل رصيدا حقيقيّا لقضيّة التحرّر الفلسطيني لأنه يرتهن المنظّمات الفلسطينية المقاومة لأجندتها القومية المذهبية ويسهم في تشويش المضمون الوطني التحرّري الإنساني للقضية الفلسطينية وفي شقّ الجسم الوطني الفلسطيني على أساس هويّاتي ديني مدمّر.
وقفها من اسرائيل كما هو معلن جذري ووجودي على مستوى "الخطاب" التعبوي الإيديولوجي، ولكنّ خلفيّته العقائدية التبسيطية تسقط في تبنّي خرافة التأسيس الصهيونية، وتفرغ المسألة الفلسطينية من مضمونها الإنساني التحرّري. فضلا عن أنّ تضخيم حجم إيران في المنطقة وإبرازها أمريكيّا وإسرائيليّا على أنها محور الشرّ في العالم والممثّل العالمي ل"الإرهاب" واستدراجها إلى العراق وسوريا لا نراه إلا إعدادا لها لدور تحتاجه الامبريالية العالمية لتستمرّ آلتها العسكرية في الاشتغال (إنتاجا للأسلحة وتجارة فيها ونهبا لطاقة المنطقة وثرواتها، وتدويرا لريع النهب والاحتكارات البنكية العالمية). إيران الآن هي الحَبّ الضروري لتستمرّ رحى الحرب في طّحن شعوب المنطقة. تماما كبعبع كوريا الشمالية وزعيمها المريض مع فارق العنوان "الحضاري" الملغوم الذي يصلح لتجديد صلوحية مفردات "الحرب الحضارية" التي أطلقها بوش الابن ويرفع رايتها الكيان الصهيوني كهوية وجودية وتستمرؤها إيران كمبرّر مواجهة في غباء وتماه فعلي مع "العدوّ".
إيران بصورتها الحالية تصلح للأسف ذريعة (ديماغوجية طبعا) مناسبة لتسويغ الغطرسة الأمريكية والصهيونية في المنطقة العربية بدعوى الحدّ من النفوذ الإيراني حماية للحليف السعودي والخليج عموما بالنسبة لأمريكا، وبدعوى مواجهة الخطر الإيراني على وجودها بالنسبة لإسرائيل.
وها هي أمريكا تحشد حلفاءها في éالشرق الأوسط" في مؤتمر تعقده قريبا في "وارسو" لتشكيل " حلف ناتو عربي سني" لمواجهة إيران والإرهاب(!!)، وما هو إلا تعلّة جديدة لابتزاز الخليج وتغذية أسطورة الغول الإيراني المستمرئ في جزء منه للّعبة.
* تركيا، دولة الجوار السوري الكبرى، انتهت، بعد رحلة معقّدة من الأخذ والردّ في موقفها من الثورة السورية، إلى موقع رابح جدّا في المحصّلة رغم كلفة هذا الموقف الأمنية من أرواح مواطنيها ومن توازن اقتصادها ( سلسلة التفجيرات الكبيرة التي استهدفتها سنة 2016 والتي أسقطت مئات الضحايا وضربت السياحة). هي الوحيدة التي تخرج الآن بعلاقات جيّدة مع الشعب السوري عموما بعد أن استقبلت ملايين من مهاجريه ودعّمت ثورته وتبنّت فصائل مسلّحة منه وفتحت معابرها أمامه، رغم حساسية حضورها المباشر في الشمال السوري والذي تصرّ على أنه مؤقّت ولا نية لها في استدامته، وتورّط مخابراتها في تسهيل تسفير الجهاديّين المرتزقة في مرحلة ما من عمر الثورة السورية، مرتزقة سيوجّهون بنادقهم نحوها بعد حين.
تركيا تربح أيضا في علاقتها مع أمريكا الحليف القديم الذي لم يتورّع عن استهدافها في المحاولة الانقلابية سنة 2016 وعن حماية خصمها الألدّ ممثّلا في قوات سوريا الديمقراطية الامتداد السوري لحزب العمال الكردي التركي. وها هي الآن بعد مناورات معقّدة وناجحة مع كل من روسيا وإيران تجبر أمريكا على "تكليفها" بإدارة المنطقة الآمنة/أو العازلة التي ستنسحب منها، وتفتكّ منها تنازلا ضخما يقضي بترحيل القوات الكردية من جوارها السوري المباشر.
وهي في كلّ هذا تنجح في الحفاظ على علاقتها مع إيران الحليف الأقوى للنظام السوري، ومع روسيا الكفيل الدولي الاستعماري له.
تركيا تحضر أيضا في كل تفاصيل الحلّ السياسي في سوريا بتنسيق يبدو منسجما جدا مع الرؤية الروسية.
* أين تونس من سوريا؟
في تونس يجري توظيف مباشر لملفّ تسفير الجهاديّين المرتزقة من تونس إلى سوريا. ملفّ يرفعه خصوم حركة النهضة كسيف ديموقليس على رقبتها كلّما احتدّت الخصومة السياسية واقترب موعد انتخابي كما هو الشأن الآن على بعد أشهر من استحقاق تشريعي ورئاسي مصيري، بما يجعل الملفّ السوري ملفا سياسيا تونسيا داخليّا يبدأ بمن سيتحمّل المسؤولية السياسية والجنائية أيضا عن تسفير الشباب التونسي إلى المحرقة السورية، رغم علم الجميع بأن عبور آلاف الشباب لأكثر من حدود بحرية وبرية نحو سوريا لا يمكن أن يكون إلا بقرار سياسي دولي وبإشراف مخابرات دولية تتجاوز القرار السياسي التونسي الضعيف ولا تحتاج موافقته من الأساس. تماما كما هو شأن الاغتيالات والتفجيرات الإرهابية التي استهدفت تونس وتركيا نفسها المتهمة الرئيسية في ملفّ التسفير.
لذلك يجري توظيف ملف إعادة العلاقات الديبلوماسية مع سوريا في القمة العربية التي ستعقد في تونس قريبا (موفى شهر مارس 2019) من طرف خصوم النهضة لتفاجئ هي بدورها الجميع بالإمعان في المناورة بالدعوة إلى مصالحة وطنية شاملة في سوريا لا تقصي الأسد استباقا لقرار دولي يبدو أنه يطبخ على نار سريعة تمهيدا لإعادة النظام السوري إلى النظام الرسمي العربي كأنّ شيئا لم يكن.
لن يحدث من هذا شيء طبعا في قمة تونس إن لم يستقرّ القرار الدولي على رأي نهائي قريبا (وهو أمر مستبعد)، خاصّة وأن فرنسا صاحبة التأثير القويّ في السياسة التونسية ما تزال ترفض تمكين تونس من دور في تبييض النظام الأسدي وإعادة إدماجه في المنظومة الدولية على الأقلّ في شكله الحالي.
وفي كلّ الحالات ستكون تونس محطّة هامّة في توضيح ملامح مصير الثورة السورية في المشهد السياسي العربي والدولي، كما كانت من قبل يوم احتضنت مؤتمر "أصدقاء سوريا" الذي شكّل بوّابة تخريب الثورة السورية بفتح باب التدخّل الخليجي فيها رغم تنصيص بيان المؤتمر الختامي على رفض التدخل العسكري في سوريا، ولكنه لم يفتح باب العسكرة فقط ، بل فتح باب جهنّم على الشعب السوري وعلى المنطقة العربية برمّتها.
خاتمة:
ما يزال غموض كبير يلفّ مصير الثورة السورية. وبين من يستعجل إعلان انتصار النظام رغم انهياره واقعيّا وفتحه البلاد لكلّ أنواع الاحتلالات الأجنبية، وبين معارضين يعلنون هزيمة الثورة نهائيّا تسليما بعجزهم وآخرين يرون ما حدث فصلا من معركة طويلة ومستمرّة من أجل الحريّة، ستظلّ حقيقة تفاصيل المحرقة التي جرت هناك على امتداد ثمان سنوات من عمر العالم غائبة عن عيون سكان العالم وعن أذهانهم وضمائرهم.
وستتأكّد شعوب العرب أساسا على ضوء ما جرى ويجري في سوريا واليمن وليبيا والعراق والسعودية وبقية الدول العربية بدرجات، ستتأكّد هذه الشعوب من حجم شراسة القرار الاستعماري العالمي، المتواطئ مع مراكز حكم ونفوذ محلّية، القاضي باستباحة مقدّراتهم وأرضهم وسيادتهم ووعيهم. بما يجعل قضاياهم النهضوية القديمة التي خرجوا بها من القرن الماضي من دون حلول (استكمال الاستقلال والتحرّر الوطنيّين والوحدة العربية والديمقراطية والتجديد الديني وتحرير فلسطين)، تصبح لا فقط أبعد من أيّ وقت عن الحلّ، بل يصبح الخوض فيها من قبيل الترف النظري إزاء الخطر الوجودي المحدق بهم.
هذه المخاوف تصحّ بنفس الدرجة في سوريا الدامية، كما في تونس المترنّحة، كما في اليمن والخليج الضاجّ بكلّ أسباب التغيير. فالتاريخ الحديث المعولم لم يعد ينتبه كثيرا إلى حدود الجغرافيا.