دستور عجيب.. لم يأتي منّة من سلطة شمولية طال بها عهد القمع فأرادت الترويح عن نفسها بفسحة حرية اغتنمتها الشعوب الكاسرة فقوضت لها عرشها، ولا هو نتيجة لحركة دبابات قبيل الفجر وضعت حدا لدكتاتورية مدنية متطفلة على "الدُومان" ايمانا منها ان الدكتاتورية من حق العسكر وحده لا شريك له، ولا هو نتيجة لشحن أيديولوجي نزا على سلطة الانتهاز الشمولي فاستبدلها بسلطة الشمول الانتهازي، ولا هو الدستور الذي صممته قيادة مجلس الثورة بصرامة وعلى خلفية القطع مع منظومة العمالة فقطّعت به اوصالها والتهمت به بعضها ثم مرت به الى الشعوب، جمعتها، بضّعت لحمها، كدسته، ثم صكته، تماما كما يفعل البناء مع خلطة الاسمنت والرمل حين يحولها الى "كنتول"، حينها تقول السلطة بانها ارتقت بالشعب الى درجة العدل المتشابه المتجانس ويقول العقل انها الغت الخصوصيات ومسحت التفاضل على شرط الجهد والفطنة والسبق، ونزلت بالمجتمع الى مستوى شعب الكنتول.
دستور سبعطاش لم يأتي لمرحلة ولا جاء لخدمة فكرة على حساب الاخرى ولا لقطع الطريق امام هذا الطرف لحساب ذاك، جاء ليعطي التضاريس الكبرى السليمة ويترك مرونة كبيرة للقانون والسياسية والمجتمع.. جاء ليصنع الأروقة وليس ليؤثثها ويقود فيها وعبرها العباد كما تقاد الدواب من شكيمتها الى خط الوصول..دستور سبعطاش ترك للشعب فضيلة الاختيار وحماها، لكنه لم يجبره على تحسين اختياره، لم يمنعه من هذا الحسن ولا هو اجبره على ذاك القبيح،
ليست تلك مهمة الدساتير، الدساتير جاءت لتساعد الشعوب في تصريف وعيها بشكل سليم ومربح، ولم تاتي لتصنع وعي الشعوب وتشير عليها في الكبيرة والصغيرة، اجلس الآن ..قم الآن.. كل هذا.. اترك هذا.. احتفظ بهذا.. احذف ذاك.. عد الان الى البيت.. ادخل الان الى بيت الخلاء.. اغسل يدك.. ابدا بالسلطة ماتكثرش من العجين ينفخك..اعملي ريجيم آ حليمة..!!!! تلك تفاصيل ليست من مشمولات المهندس وانما يعود شانها الى البناء.
لم يأتي دستور سبعطاش مسكونا بهاجس المنظومة القديمة، لان العقل والمرونة تدرك ان الكثـــــــــــــــــــــير من القوى المناكفة لمنظومات القمع، تخنس بداخلها كمية من القمع لو قسمت على أهل الأرض لوسعتهم، في المحصلة دستور سبعطاش جاء يخاطب عقل الشعب والدولة في تكاليفه الكبرى ثم قال قولته الفصل"انتم أدرى بشؤون دنياكم"، ولقد صدق دستورنا في ما ذهب اليه من حكمة غابت عنا، ادركناها بعد ان وقفنا على حقيقة مرة، مفادها ان ليس ما قامت به منظومة القمع هو اقصى درجات القمع، ففي جعبة أرخبيل الدمار الخامل مخازن رهيبة من ديناميت الكره المعتق.
اذا اردنا تقديم شواهد حية على طبيعة الدستور، ولكي نقترب أكثر من الصورة يمكن استعارة تجربتين، الاولى بين حكومة الصيد ورئاسة السبسي، هناك كان الدستور خارج الخدمة برغبة شبه جماعية، اين راينا سلطة رئاسية مطلقة بخلاف ما نص عليه الدستور..ذلك بما كسبت ايدينا. أما الثانية فبين حكومة الشاهد ورئاسة السبسي، هناك وقع التحاكم الى الدستور فتراجع السبسي الى ما بعد خط التماس وتمايزت المهام، وذلك بما كسبت يد الدستور..
من هنا ندرك ان الدستور الذي مكن أحد أعضاء النداء ومن صفوفه الوسطى، من انتزاع صلاحياته كرئيس حكومة، واجبار رئيس حزبه ورئيس دولته على التقهقر، بالتأكيد هو من جنس الدساتير التي تحتكم على ثروة كبيرة تمكن الشعب من انتزاع مهامه وتعديل البوصلة والوقوف في وجه المنحرف او المتلاعب بوثيقة 27 جانفي 2014، تلك التي وقعها نيابة عن الشعب التونسي الكريم، كل من رئيس الجمهورية السيد محمد المنصف المرزوقي ورئيس الحكومة السيد علي العريض ورئيس المجلس الوطني التأسيسي السيد مصطفى بن جعفر.
لهذا نؤكد انه لا شيء اروع من المنجز الدستوري غير المنجز السبعطاشي، وانه وبموجب هذا الدستور يمكن الاخذ على يد المتغول او الطامع او المتآمر، واسترجاع الحق الدستوري ليس اسهل منه اذا توفرت العزيمة وارتقى الشعب الى مستوى دولة القانون والمؤسسات.. إننا وإياكم في حضرة المنجز العظيم، وان لا عودة الى ما قبل عود الثقاب.. لم يعد البوعزيزي ولن يعود، رحل بلا عودة، الى اللـــــــه..
لم يعد المخلوع رحل بلا عودة امره الى الله.. لم نعد نتحدث عن ستاش ديسمبر، يوم الشعب يوم سبعطاش، لم نعد نذكر ثلطاش جانفي يومنا يوم اربعطاش، لم نعد نتحدث عن دساتير ووثائق 26 جانفي، دستورنا دستور 27 كما ليلة القدر.. لا شيء في تونس يعود الى الخلف، غير هذه الضباع التي تكثر الالتفات، مرة تلوي عنقها تتطلع الى سراب ما قبل ثارات الفتى البوزيدي، ومرة تمد عنقها خلف اسوار تونس، تتحس دبابة من الشرق تنقذها من الشرف التونسي ، ومرة ترنوا الى عقال من الخليج ينتشلها من مأساة الحرية في طبعتها التونسية..
ثم ايها الضباع أما بعد، فهذه تونس التي تصنع الأحداث الجسام في هدوء ودون الحاجة الكثير من الغبار، وهي الى ذلك تحسن تربط وتحسن تحل، ولن يعجزها امركم، وان كان داروين خاب في ما ذهب اليه من نشوء وارتقاء وتبين ان الإنسانية ليست من سلالة القرود، فان تونس وبفضل الله ثم وبفضل معجم سبعطاش ديسمبر قادرة على تحويل سلالة الضباع الى سلالة البشر، فقط انتم تسلحوا بالنية واتركوا الباقي على الله ثم على تونس.. وكما المسيح ابن مريم يبرئ الاكمه والابرص فتونس تبرئ المضبّع.