مسلسل المايسترو أعادني مجددا لمشاهدة التلفزيون التونسي، بعد أن قاطعته لسنوات. أحسستُ وأنا أشاهد حلقاته وكأنني أقرأ رواية. هذا عمل درامي يفرض عليك أن تتابعه بعقلك وقلبك ووجدانك.. بمشاعرك وعواطفك.. بكل جوارحك.. يجعل دموعك تنزل دون أن تشعر.
مسلسل بعيد جدا عن المألوف وعن بقية الأعمال التونسية المكررة الضعيفة والتافهة، رغم ما يُنفق عليها من أموال طائلة. (المايسترو) عمل متقن ومنسجم من كل النواحي؛ السيناريو على الأدوار على المشاهد على الموسيقى على التصوير على الإخراج على تقسيم الحلقات على اختيار الأغاني المؤداة من طرف الشخصيات.. حتى تلك اللحظات التي يغيب فيها الحوار ويُفسح المجال للتأمّل في المشهد مع موسيقى مصاحبة... وكأنك مع رواية.
هو ليس عملا تجاريا مليئا بالعنف والابتذال والهرج الفارغ والبذاءة والإثارة باسم تلفزيون الواقع. كل هذا إلى جانب شيء مهم جدا هو أنه يحكي قصّة كبرى، وليس قصّة سِجن الأحداث فقط، بل قصة صراع الإصلاح ضد المحافظة الحمقاء، والإبداع ضد سياسة فرض الأمر الواقع الرديء، والأمل بغدٍ أفضل ضد اليأس من المسقبل..
فهو يحارب الإجرام والعنف والظلم والتفكّك والعدميّة واليأس والمكائد والحيرة والضياع والكراهية المتجسدة في عصا السجّان (غانم الزرلي في دور يونس) ويستبدلها بالألحان والعود والساكسوفون والكامنجا والبيانو والأغاني الجميلة والإيقاع الحيّ والرياضة وحبّ المجموعة ومراعاة الإنسان الذي فينا والذي يعيش معنا.
مسلسل واقعيٌّ جدا لكنه حالم إلى أبعد حدّ. الشخصيات الشابة الموجودة فيه جعلتني أتفاءل وأحلم، في خضم هذا الواقع الرديء جدا.. هنالك بصيص أمل في جيل مليء بالفن والإبداع رغم السّياق القاتل، ورغم قِلّة الإمكانيات والموارد المهدورة والسرقة والعنف وسوء الأخلاق وموت الحلم.
هنالك أيضا تناسق كبير بين الجيل القديم (فتحي الهداوي ودرّة زروق وأحمد الحفيان ووجيهة الجندوبي) والجيل الجديد (أولاد وبنات الإصلاحية). هذا العمل الفني هو نقطة تحول كبرى، حسب رأيي ورأي الكثيرين من المتابعين، في العمل الدرامي التونسي. أهم رسالة قدمها هذا المسلسل أنه أكد أنه بإمكاننا أن نقدم إبداعا راقيا ونظيفا نشدّ به المشاهد ونسلّيه ونرفع به الذوق العام ودرجة الوعي دون السقوط في الإباحية والعنف اللفظي والمادي والرمزي ومن دون تصوير مشاهد مقززة ومقرفة ومبتذلة.
طبعا، هذا العمل فيه جُرأة كبيرة في الطرح والسيناريو والحوار لم تكن لترى النّور لولا هامش الحرية الكبير الذي يتمتع به كل من الفنان والكاتب في تونس بعد الثورة، وهو ما تفتقده بلدان عربية أخرى، مثل مصر وسوريا والخليج، والتي تصول فيها الرقابة الحكومية وتجول على حساب الحرية الإبداعية، مما أثر على أعمالهم وجعلها ضعيفة جدا ومحدودة التأثير وبروتوكولية غير عصرية ولا حديثة ولا ذكية ولا جذابة... لكنها هنا كانت حرّيةً مسؤولةً لا حريةً منفلتة.