لم يخرج الزرقوني ليقدم إشارة لأنصار المرشح الذي ينهار في الشارع قبل الصناديق، ولا هو خرج ليكتب عبارة تطفئ لهيب الساحات وتغذي حملة صاحب القناة، ربما عجز عن رسم كلمة " ce "n'est pas " très serré" وربما يرفض الاعتراف بهزيمة المعسكر الحداثوي السيستامي الذي احتكر السلطة وما زال يصر على احتكارها او اقله تسليمها إلى من يشبهه.
فجأة انتهت سطوة الإعلام وسقطت منصاته وأصبحت راجماته التي طالما عبثت بالساحة وقطّعت اوصال الثورة ونخرت الشرعية، اصبحت عبارة عن "فوشيك او كرطوش بني بني" يدخل من هذه الأذن يخرج من الاذن الاخرى، بل تحول هذا الداء الموروث من عهد بن علي إلى عامل محفز، فبقدر تهجم الإعلام على قيس سعيد بقدر التفاف الناس حوله! إنها الشعوذة المرئية و المقروءة والمسموعة حين تنهار في لحظة انتباه شعبي خارق.
حالة من التطوع الغير مألوف اجتاحت تونس مساء الجمعة، تحركت كل القطاعات واغلب الشرائح الشعبية وانتشر التطوع ليطال قطاع النقل وقطاع النشر وقطاع الدعاية وقطاع الاتصالات وغير ذلك من القطاعات، لقد شكل يوم الجمعة بروبة حقيقة وقوية تمهد لأحد يلوح فيه الحسم بالضربة القاضية وابعد ما يكون عن النقاط.
هذا رجل بمواصفات رئيس جمهورية وليس بمواصفات رئيس حكومة..
ربما هي الأقدار وربما هو الحس الشعبي اللاقط ، الذي يلتقط مصالحه على المقاس، ربما هي دماء الشهداء او هي التجربة التونسية الصلبة التي صارعت ديناصورات إقليمية حتى أرهقتها، ربما هي الكثير من الأشياء التي صنعت قيس السعيد الرئيس في الوقت الذي تحتاج تونس إلى مواصفات قيس لرئاسة الجمهورية وليس لرئاسة الحكومة،
ذلك ما أثبتته مناظرة الجمعة الى السبت، التي قامت بتصفية جيوب نبيل القروي داخل نبيل القروي، ونصبت بشكل مبكر سعيد على عرش قرطاج، في وقت تحتاج فيه تجربة الانتقال إلى شخصية ثقة مأمونة تقف على ثغرة الخارجية وتحول بين الثعابين و العقارب والهوام والسوام وبين ثورتنا وانتقلنا.
قيس سعيد بثقافته ورمزيته وأمانته يصلح إلى رئاسة بمواصفات أقرها دستور الثورة وبتلك الصلاحيات بالذات، لكن الرجل وبتلك الأفكار والمفاهيم لا يصلح لرئاسة الحكومة، وإلا لأنهكها وأنهكته واستنزفها واستنزفته، لأنه لا يطرح فكرة إصلاح هادئة ومرنة تحدث الفارق ولا تحدث الشرخ، إنما يهدف الى تقويض المفاهيم السياسية السائدة وتعويضها بباكورة جديدة او مستجدة تمخضت في ذهنه وشربها حد الثمالة،
وهي باكورة تحتاج الى شركاء أكثر بكثير لتصنيعها وليس لتنزيلها فحسب، كما تحتاج إلى مساحة أوسع بكثير من القصبة ومن قرطاج ومن المؤسسات التشريعية، هي أيضا تحتاج الى حيز انتخابي اكثر بكثير من دورة بخمس سنوات،
تحتاج الى مداولات فكرية سياسية واسعة وطويلة ومتأنية، ثم وإن قبلها الشعب او شرائح واسعة منه، تحتاج أيضا إلى البحث في كيفية تنزيلها بلطف حتى لا تتسبب عملية التحامها بالدولة في كارثة غير محمودة.. قيس سعيد هو الحرس الجديد الامين للتجربة وليس قائدها الحكيم، وهذا بالتحديد ما تحتاجه تونس اليوم واليوم بالذات.. قلت ومازلت اقول، دعوها فإنها مأمورة.