اكتمل الموسم الانتخابي في تونس وننتظر الحكومة. يطلق الشباب تخميناته ويرشح وزراءه، ولكن الأمر موكول بالدستور للأحزاب، فما ستفعل الأحزاب الفائزة؟ الأمر ليس بالسلاسة التي نراها من خارج الأحزاب بل هناك معارك كسر عظم تجري الآن بينها ويصلنا دخانها، ولكن لا تظهر توجهًا محددًا وإن كانت كل الأحزاب تتطهر من عيوبها بتقديم مطلب أول إعلان الحرب على الفساد.
خطوط عامة تميز النقاشات والمناورات أهمها ابتزاز النهضة كي تعطي ولا تأخذ بقطع النظر عن حجمها البرلماني ويكملها شعور مفرط بالمسؤولية يشكل تفكير قيادة النهضة بين الحفاظ على حقها في الحكم كحزب أول منتخب والحفاظ على استقرار البلد والمرحلة، ويهيمن على النقاش محاولة فرض الخاسرين انتخابيًا أجندة سياسية تعطيهم حقًا لم ينالوه بالصندوق.
الخط الأول ابتزاز الأحزاب لحزب النهضة
سمعنا مقترحات تفاوضية من حزبي التيار الديمقراطي وحركة الشعب، مقترحات عالية النبرة ولا تعادل الحجم البرلماني للحزبين، ويمكن قراءتها كمطالب تعجيزية أو كذرائع للتنصل من المشاركة برمي التهمة على حزب النهضة، فيخرج أصحابها أطهارًا من معركة لا يمكن لمن يخوضها إلا أن يتعذب بها وأعني معركة الفساد كمقدمة ضرورية لبدء تنمية بأدوات حكم صالحة.
لقد أعطى حزب النهضة من نفسه وسمح للأحزاب بمثل هذه الطلبات، فقد قبل في حكومة 2014 (الحبيب الصيد) المشاركة بوزير تقني وحيد، مع حزب النداء رغم أنه الثاني في البرلمان (69) نائبًا، ورأى أحزابًا بلا وزن حقيقي تحصل على عدد من الوزارات لا تعادل حجمها البرلماني وخاصة حزب سليم الرياحي (الوطني الحر).
كانت ظرفية انتخابات 2014 مختلفة، وقدم حزب النهضة سلامة الحزب وإنقاذه من معركة الاستئصال على المشاركة الفعالة، واستمر الوضع حتى الآن، ويبدو أن البعض استمرأ ذلك فحوله إلى قاعدة تعامل مع النهضة وبدأ بمطالب المشاركة على أساس أن النهضة مرفوضة من الخارج ولذلك عليها إعارة كتلتها النيابية لإسناد الحكومة دون المشاركة فيها (وهو ما سميناه بتشغيل النهضة كتاكسي جماعي). المطالب المقدمة للنهضة الآن غير واعية بأن الموقف الخارجي عجز عن التأثير في التصويت وبالتالي اختار التونسيون من يحكمهم بإرادتهم لا برغبة القوى الخارجية، فصاروا هم الحكم الذي سيعاد إليه في كل مرة إذا عجز السياسيون عن التفاهم.
الأصل في التشكيل الحكومي أن يكون بخصوص برنامج للتنفيذ الجماعي وعلى قاعدة الحجم البرلماني، أما الشروط التي سمعنا فتستبق إعلان برنامج الحزب الفائز وتبدأ الابتزاز دون تقدير تغيير المعطيات على الأرض.
الشعور المفرط بالمسؤولية يخذل الشارع
نسمع بدايات استجابة من حزب النهضة للابتزاز تحت مسمى حماية المسار من الانهيار وحماية البلاد من التفكك وهذه مقدمات لخيانة القاعدة الناخبة التي فوضت الحزب للحكم. رغم سنوات من الهرسلة الإعلامية حملت الحزب كل فشل المرحلة السابقة متناسية حجم مشاركته ومغفلة دور الفساد الذي نخر حزب النداء فقضى عليه كحزب وكمشروع حكم ولد ليبقى فاندثر.
يضع المبتزون النهضة بين خيارين أحلاهما مر: الحفاظ على الاستقرار من موقع المسؤولية أو التنازل عن قيادة الدولة باسم المسؤولية، ولكن الخيارين يغفلان الخيار الثالث أن الشعب فوّض الأحزاب للحكم لا لبناء حكومة أهواء حزبية ينال فيها الأضعف حجمًا أكثر من الحزب المفوض.
يحسب حزب النهضة حتى الآن (فيما نلتقط من تسريبات أولية) حساب الشركاء المحتملين ويود الأخذ بخاطرهم أكثر مما يحسب حساب الذين منحوه الثقة للمرة الثالثة، وهذه الروح الإخوانية قد تبني حكومة هشة بلا شك ولكنها لن تنتج حكمًا فعالاً، بينما سعى الناس إلى استبدال الهشاشة بالفعل، وينتظرون بصبر قليل قبل إشعال الشارع كما أشعلوه مع الرئيس الذي مثل لهم نموذج تجديد أو خروج عن السائد الذي رفضوه.
الشعور المفرط بالمسؤولية أو لنقل خطاب التخفي خلف خطاب المسؤولية يأتي في غير أوانه بعد الهبة الشعبية (نحو 3 ملايين صوت وراء قيس سعيد) تلك الهبة التي تقرأ وجوبًا كطلب لحكم فعال ومنتج ولا يتخفى خلف شعارات كبيرة وفعل قليل وهو خطاب موجه للجميع بحيث لا يخشى الحزب الفائز من تحمل مسؤوليته أمام الشعب وخاصة أمام الأحزاب التي تمارس التطهر السياسي بمقابل حكومي كبير.
الخاسرون يهددون
حسم الصندوق الانتخابي في ما كنا نسميه اليسار فصار أثرًا بعد عين، لكن فلوله الخاسرة تبحث عن عودة من النوافذ الخلفية بعد خروجها مطرودة من الأبواب، إذ فجأة وبعد إعلان النتائج عدنا نسمع عن الرباعي الراعي للحوار، فتذكر التونسيون مؤامرة 2013 التي كانت استثمارًا في الانقلاب المصري وفرضته واقعة مؤثرة على الحياة السياسية التونسية. رباعي غريب في الحقيقة يضم اليسار مع اتحاد الأعراف (رأس المال) يفرض شروطه دون سند شعبي ليعين حكومة تلائمه ويفرض برنامج عمل أساسه منع الإسلاميين من الحكم. عودة مثيرة للسخرية في الشارع ولكنها منذرة بقلاقل اجتماعية تقودها نقابة اليسار وقد انطلق بعد إذ عطلت اليوم قطارات الضواحي وتركت الناس في العراء بعيدًا عن عملهم وبيوتهم.
رباعي يتكلم باسم شعب أسقطه في الصناديق (انحاز اتحاد الأعراف بكل ثقله المالي إلى المرشح الخاسر في الدور الثاني وسقط معه كقوة سياسية واقتصادية) ويريد أن يعود إلى حكمه بالقرصنة لا بالانتخاب، ويملك أن يخرب وضعه الاقتصادي بلا أدنى شعور بالذنب، ونلتقط علامات رعب لدى حزب النهضة من مواجهة ماكينة التدمير النقابية، وهي تعرف دورها وما فعلت بها في زمن حكم الترويكا، لكنها لا تتكلم بما يفيد صمودها دفاعًا عن قوة الصندوق الانتخابي وما أعطى من نتائج وهذه أيضًا بداية مربكة في طريق تشكيل الحكومة.
فرضية بعيدة ولكنها تقترب
ما نراه الآن من ضغوط ومناورات تحتمل معنيين: رفع سقوف التفاوض مع النهضة وهذا مرحب به ومقبول شعبيًا من أجل حكومة مستقرة ومبنية على برنامج ولكن المعنى الثاني هو الفشل المخيم، إذا فشل الجميع في بناء حكومة قادرة على البقاء فإن ذلك يقرب سيناريو إعادة الانتخابات في زمن قريب وحينها سيعاد فرز جذري قد لا يخرج أي من هذه الأحزاب بالحجم الذي فاز به الآن، فالحسم الشعبي سيكون قاسيًا، وسيفرز خريطة سياسية جديدة بلا أحزاب فاعلة ولا نرى في هذا إلا فوضى قادمة ربما لن يتقن حتى الرئيس توجيهها نحو صواب ما.
التفاوض مطلوب والتنازلات مطلوبة ومصلحة شعب يعيش أزمة اقتصادية يجب أن تكون فوق التنافس الطفولي الذي نرى عليه علامات مؤذية. فهل سيفلح التونسيون في إحداث معجزة أخرى تشبه معجزة تفكيك منظومة بن علي بواسطة الصندوق الانتخابي دون بنادق أم سيقعون في النفوس السياسية الصغيرة التي أفرز الصندوق بعضها فبدأ حملة دلال سياسي؟ نطرح الأسئلة ونراقب التفاوض العسير.