الأغبياء وحدهم لا يتغيرون
تكاد تختزل الجلسة الانتخابية ليوم الثالث عشر من نوفمبر في قبة البرلمان السنوات الخمسة المقبلة في صورة واحدة شديدة التعبير: دعنا نقتسم مائدة السلطة وليذهب الشعب إلى الجحيم! ما أشبه البارحة باليوم!
عندما كان قادة الرأي يقلّبون شقوق النداء تقليبا في كل منصة تلفزيونية أو مكبّ إعلام، كان المُتْعَبُون ينتحرون على أبواب بنايات السيادة دون اهتمام. وعندما كانت الخصومة عظيمة بين الصحفجيين حول جنس الوزير الفلاني، هل هو من حزب علان أو حزب فلتان كانت زهرات الوطن تُزهَق حرقة واحتراقا في بيوت العلم بمجاهل القصرين..
ثم جاءت ثورة الانتخابات فنال الجميع نصيبه من الصفع، وأعلن الكل أنهم فهموا الرسالة واستوعبوا الدرس!
المأساة أن القطيعة مع الماضي لم تفعل غير إعادتنا إلى الماضي وأن وهم المراجعة انتهى بنا إلى مزيد من مجالس الفكاهة السياسية وما حولها من مجالس التنبير، وأن التطبع مثل الطبيعة لا يقبل التغيير .. حتى لقد قال الحكيم الجديد: كل الشرّ في جوف الأحزاب!
وما نطق عن هوى.
بعد " حالة فريدة من استعادة الوعي " ، وبعد حالة " ثورية " أعادتنا إلى أهازيج ديسمبرية قديمة ، ظننا أنّا غدونا أولي الأمر والنهي ، وأن السلطة عادت ملكا للشعب … فإذا الأمر كله خدعة خُدِعْنا بها من قبل .
الأمل الوارف بفجر جديد أفسده عراك لا ينتهي بين عمرو السياسي والسياسي زيد، و بيان لمجلس الشورى يقابله بيان لحركة الشعب ورسائل من الصافي سعيد. ومن أجل عيون صاحب صاحب السيادة في قبّة باردو، لا بأس أن ينطفئ النور في عيني تلميذة من دواخل الغبن، فالتفصيل البسيط يبقى مجرد تفصيل ! .
في هذا العالم من الانحطاط السياسي ستظل النخب السياسية، في كل عام تحفر بمناكفاتها رمسها إلى أن تستيقظ فجأة على أسوارها العالية وقد انهدّت تحت أقدام الجماهير.
إن أهم انجاز قام به ساسة هذا البلد منذ السادس من أكتوبر هو انجاز الهدم، هدم الآمال الكبرى التي انفجرت ذات انتخابات، وهدم الأحلام الجياشة بأنه ثمة فسحة للتغيير، وضوء في نهاية نفق الوطن الأسير..
" لن يطرأ أي جديد تحت شمس هذا البلد ، لا تذهبوا بعيدا في أحلام الربيع … نحن شتاؤكم الأبدي ، ونحن لفح الصقيع … "
هكذا يردد الساسة من خلال صراعاتهم الصغيرة حول من أحقّ بعبور الطريق أولا: النملة أم الفيل ؟ ومن أحق برئاسة الحكومة النهضة أم قبائل المستقلين؟ وأيهما أولى بالتضحية والتشيع: الوطن، أم الحزب، ذاك الوطن البديل؟
النهضة أرادت إبهارنا بأدائها البهلواني، فلم تثر غير استغرابنا من انتحارها السياسي. النهضة التي بدت في غاية الشراسة في دفاعها عن كيانها وحقوقها الحزبية المكتسبة بصقت في وجه الجميع بصقة كبرى وأخشى أن تكون أول من يطؤها بقدميها الاثنتين!
هي تتحدث عن مشروعية الحكم للغالب بالصندوق، ولو تمعنت قليلا لأدركت أن الغالب بدوره مغلوب!
هذا الشهر السياسي استحق لقب الناطق الرسمي للنهضة.. وقد نطق بما يلي :
- ما دمنا نمتلك هذا الحزب كوطن بديل ، فليذهب الوطن الأكبر إلى الجحيم !
- الحزب الذي طالما تنازل من أجل الوطن ، ضاق ذرعا بالتضحيات وصرخ في وجه الجميع : لا تنازل بعد اليوم !
- الشعارات الثورية لا ينبغي فهمها خارج سياقات أسباب النزول ! … وإذا كنا قد رفعناها ذات انتخابات فالغبي من يظن أنها تصلح للأحلاف والحكومات !
- نحن نفهم ممارسة السياسة من أجل السياسة ، كما لا يمكن محاكمتها من زاوية أخلاقية ، تماما كالفنّ … بل إن كل سلوك سياسي مهما انحرف نستطيع تكييفه تحت مسمى فضيلة التعايش ومصلحة الوطن.
- باسم الضرورة واتقاء الضرر يمكنني التعرّي تماما للنداء ، ولكن كلما ابتزني حزب يدّعي الثورية تتلبّسني الرجولة فجأة وينجرح الكبرياء !
وفي الواقع، كل من حركة الشعب والتيار وإن بدا منهما بعض العداء فإنما يقدمان لها طوق نجاة. فأي شيء يمكن أن تفعله النهضة بعيدا عنهما سوى استنساخ الفشل القديم؟ وأي عار في أن تتنازل النهضة لهما مادام في التنازل طريق الانقاذ الوحيد؟ ألم تقم قبلا بدور البطرون لهذا الوطن وأدخلت كل زناة الليل إلى حجرته؟ ألم ترض بأقل الأدوار وأوضعها حقنا للدماء؟ أليس رعي جمال السيد زهير المغزاوي أفضل من رعي خنازير نبيل القروي؟؟
- أي سلطة تنفيذية يؤول رأسها إلى النهضة لن يكون حالها أفضل من مصير سلطة الجبالي والعريض. سيتداول على ضربها الخصوم، وستنتهي بأحداث رشّ جديد. لا شك أن في شروط الحزبين اللدودين بعض إجحاف، وفي اصرارهما بعض إلحاف، وطهرية زائدة لا يمتلكانها. ولكن ربع المجلس أقل من الثلث المعطل ولن يمنحك أبدا وضع الأمير. ولو كانت النوايا صادقة، ولم تكن بعض الاتفاقات القديمة مع جبهة الفساد نافذة لقدمت النهضة لغريميها وحليفيها الحكم، كل الحكم.. واكتفت كالعادة بوزير أو اثنين.
فالأكمة تخفي ما وراءها، وقد لا تخفيه لذي عينين! في ايطاليا التي يشبه نظامها السياسي نظامنا، حكم بتينو كراكسي بعشر الأصوات واحدة من أقوى الحكومات.
الأغبياء أيضا من يتوهمون الركض، وهم فقط في مكانهم يرقصون..