أكثر من أرهق التجربة التونسيّة ليسوا خصومها المباشرين ولا حتى الحطب الأيديولوجي الذي التحق بخندق الثّورة المضادّة حين أعرضت عنه الصّناديق، بل أكثر من يرهقها أولئك المشفقين البسطاء الذي رفضوا الإصغاء إلى التعريفات السّليمة لمفهوم الانتقال الديمقراطي وطبيعته وتحدّياته وزمن الحمل والحبو والرّضاعة وصولا للفطام، أرهقونا حين سارعوا إلى اجترار عبارات ماكرة صادرة عن معسكر العار، تسفّه الثّورة لأنّها لم تفرغ بسرعة من تثبيت الانتقال السّياسي ومن ثمّ التفرّغ للاجتماعي والاقتصادي،
حينها أكّدنا على حتميّة احترام المراحل والصّبر على غرس الانتقال السّياسي بشكل متجذّر يصعب اقتلاعه مهما تعرّض إلى الهجمات، حينها أكّدت الأصوات العاقلة أنّ النّجاح في تثبيت السّياسي في هكذا محيط إقليمي معاد يحشد للشرّ ويقرع طبول الخراب منذ 2011، يعدّ مفخرة لتونس وسابقة تحسب لها في تاريخها، لكن ضعفاء الذّاكرة ضعفاء الفكرة انطلت عليهم خدعة منظومة نوفمبر وحطبها وملاحقها، ووقعوا في ثلب الثّورة لأنّها أطنبت في الانتقال السّياسي و أبطأت عليهم بالاجتماعي.
لو كنّا قدّرنا الانتقال السّياسي حقّ قدره ورعيناه حقّ رعايته وصبرنا عليه وعملنا على سلامته لابتعدنا عن الأحلام الواهية وعن الرّئيس المخلّص الذي سيأتي بالثّروة من العدم والذي سيلاحق الفساد بسيف الإمام عليّ ويجهز عليه والذي سيقفز بتونس عوضا عن بلاد الله التي تشهد متاعب اجتماعيّة واقتصاديّة من الأرّدن إلى الجزائر ومن المغرب إلى موريتانيا، إذْ لا نتحدّث عن البلدان التي تأكلها النّار لأنّها استهزأت بسلامة الانتقال السّياسي واعتقدت أنّ تثبيت ذلك الانتقال تمّ ليلة فُتحت الصناديق وأفصحت عن نتائجها..
فكانت المجازر وكانت الخيبة وكان الانهيار الشّامل.. إضافة إلى تجارب أخرى غرقت في الدّم قبل أن تتمتّع حتى بقرار شعبي واحد.
كنّا نؤكّد أنّ تونس ما زالت تحت منجنيقهم وأنّ القصور السياديّة يجب أن تكون مؤمّنة ليس بالأحلام والخطب الرنّانة ولا بالشطحات الهتشكوكيّة التي رفعت يدها على الزّناد وأطلقت وعود السّراب وبشّرت بالجنّة الوهميّة، كنّا نؤكّد أنّ 2013 عندما نزل الباطل بثقله في ساحة باردو ونزل الحقّ بعزمه في ساحة القصبة، حينها كان ظهر الثّورة محميّا، لم يكن أحد يلتفت إلى الوراء،
لقد كانت مؤسّسة الرّئاسة واقفة ثابتة مستعصية عن المساومات، كان الثوّار يدركون أنّ المرزوقي أحرص منهم على الثّورة، وأكثر كرها لزبانيّة الثّورة المضادّة وأنّه لن يستسلم ولن يسلم، لذلك كانت المعنويّات مرتفعة، بل في السّماء، أمّا اليوم فها نحن نتابع الجريمة كيف تجمع فضلاتها في نسخة أبشع من 2013، وتقرع طبول الغدر باسم قرطاج وباسم الرّئيس، والرّئيس يخاتل ويتجاهل ويجسّ النّبض ويمضي في "دزّان النّح" ليس ذلك فحسب، بل وبينما الجريمة تحشّد باسم الرّئيس يقوم الرّئيس بدعوة سفّاح مصر وزعيم الانّقلاب الذي أجهز على ثورة 25 يناير، يدعوه إلى تونس وهو يدرك أنّ ذلك يستفزّ ثورة سبعّطاش ديسمّبر ويرفع من معنويّات عصابة تجمع نفسها تباعا للقيام بأبشع عمليّة سطو على الثّورة من فشلت أفواه الأرز في ذلك.
بينما يستعدي الرّئيس الحالي مجرم العصر وعدو الثّورات العربيّة سفّاح رابعة، وبينما يبالغ قيس سعيد في استثمار التحشيد الإجرامي الذي يتمّ باسمه وعلى مسمعه وبتواصل من بعض مستشاريه، في هذه الأثناء يدخل الرّئيس السّابق المعركة، يشرع في كشف أعداء تونس وثورتها، بل أنّ المرزوقي أطلق صيحته منذ أربعة أشهر، وبالتحديد في جانفي حين تدخّل عبر الفيديو على هامش الدّورة الحادية عشر للمنتدى المغاربي بمدينة الجديدة المغربيّة، وعاد اليوم يحذّر..
ثمّ أصلا متى توقّف الرّجل الشريف عن التحذير ومتى ترجّل عن النّضال والنّزال.. صحيح أنّ المرزوقي يتواجد اليوم كما دوما في خندقنا نشاركه ويشاركنا، لكن كنّا نودّ أن يكون في مثل هذه الظروف عين الثّورة في الضّاحية الشّمالية، عينها على المتوسّط يراقب حركة كلاب البحر.