طبعا لا نتحدّث عن الترويكا حين كانت الأرض بكرا لثورتها، حين ما زالت المنظومة تحت وقع المفاجأة وقبل أن تستأجر المرتزقة وتتكئ عليهم ثمّ تقوم لتفعل من جديد. نتحدّث عن الزّمن الذي استقام فيه عود المنظومة واستعادت أنفاسها كما استعادت صُنّاعها وأدواتها التي استعملتها طوال عقدين.
حين وصلت المنظومة إلى عنفوانها سنة 2014، وتمكّنت من بسط هيمنتها على كبرى المؤسّسات السياديّة وانتهى البرلمان تحت أضراسها، حينها تمكّنت الكتلة الثّانية المتماسكة المتجانسة من لعب أدوار دقيقة وخطيرة ومفصليّة، حينها كان للنّهضة الأدوار الحاسمة لمّا تقربت من السبسي وأقنعته بأنّ الديمقراطيّة جميلة وأنّ طريق الحكم سالكة للجميع عبر الصّناديق، وأنّ الطرح المجنون الذي يلحّ به الوطدي المتحوّل محسن مرزوق سوف يمصرن التجربة التونسيّة وينتهي به "السبسي" إلى سكّة الإجرام السّياسي..
وكان أن اقتنع الباجي وتشتّت الحطّب الأيديولوجي الذي ناصره واستقدمه لإشعال التجربة من جوف الدّولة، ونجح الباجي في الإفلات باسمه بعيدا عن الخيانة فيما ترسّخت أقدام الخونة في بركة الخيانة.
بينما أعلن بعض أنصار الثّورة الانتصار المدوي صبيحة النّتائج الأوليّة للانتخابات التشريعيّة ثمّ وبينما التهم الاندفاع أسهم الواقعيّة، كان روّاد السّاحة العميقة يدركون أنّ الفرز بتلك الطريقة أقرب إلى الشّهوة والفرح الطفولي منها إلى الواقع، كانت المؤشّرات تؤكّد أنّ بعض الذين صنّفهم الفرح البسيط ضمن خابية الثّورة، هم في الحقيقة عاهة الثّورة وجرحها المتعفّن، وسَلُولها الذي يأبى مغادرة يثرب ويصرّ على التموقع في قلب التقاطع كمنسق يلعب الأدوار الخسيسة بين دار النّدوة في أم القرى والحصون القريضيّة الغادرة.
ذهبت السكرة وحضرت الفكرة.. وتمكّنت تونس بفضل الأربعاء الطويل من التقاط أوضح صورة لجينات نتائج 6 أكتوبر 2019، وتبيّن أنّ الثّورة حققت نتائج إيجابيّة مقارنة بمحطّة 2014، وأنّها انتقلت من أقليّة إلى "فرسي رهان"، تؤكّد الخارطة التي أبان عنها فجر الخميس 4/6/2020 بعد يوم الاختبار الطويل أنّ التناصف بات يحكم المجلس، وإن كان فيه من الغبش ما فيه، فنصف الثّورة يعاني من حالات تأرجح قابلة للتماسك كما هي قابلة للانهيار وحتى الالتحاق بخندق المضادّة، كما أنّ النّصف الذي بحوزة المضادّة يعاني من انقسامات حادّة بين الانتهازيّين والاستئصاليّين والمتربصين الذين يراقبون وجهة المعركة، وعلى وقع نتائجها سوف يحدّدون ميولاتهم.
قبل اقتناص ذلك الفرز واهتبال تلك الصّورة الواضحة للخارطة الجينيّة، سيبقى يوم الأربعاء علامة فارقة في تاريخ الانتقال الديمقراطي يوم تمكّنت فيه الثّورة من نفي خبثها، وتلقّى فيه التفحيج الماكر أكبر صفعة منذ 2011، فبعد الالتحاق بمعسكر حشفة التجمّع وبعد الانحدار إلى مستوى كاتب عمومي عند الحشفة يصيغ لها اللّوائح ويحبّر!!! بعد ذلك الانهيار الدراماتيكي، يستحيل التفحيج مرّة أخرى، إذا لحوّل صاحبه إلى كراكوز تتأذى منه نوادي الكراكوزات.