حسنا.. لقد أصبح الرئيس موضوع مقاربتين وثوقيتين نقيضتين: واحدة تراه مخلّصا أخيرا من كل الشرور، وخاصة من الأحزاب "الفاشلة"، وبالخصوص من النهضة التي صارت تختزل في نظر أصحاب هذا الطرح كل مساوئ عشرية الثورة بما فيها الكورونا الأخيرة. والثانية تراه عنوانا مخاتلا للثورة المضادة وبالتالي منقلبا على الديمقراطية منذ ظهوره إلى اليوم. انقلاب ينسب حينا إلى إيران وأحيانا إلى روسيا و/ أو فرنسا.
كلتا المقاربتين تلجآن إلى التبسيط هروبا من محاولة تفسير الغموض الكثيف الذي أحاط بالظهور المفاجئ لرئيس غامض. بل أنني أميل إلى الإعتقاد أن الرئيس نفسه متفاجئ من صعوده بتلك الطريقة. صعود أتاحه سياق انقسام انتخابي لم يتوقعه أحد. تذرر الجبهتين القديمة والجديدة كان دراما فاقت قدرة كل الغرف على الضبط، فصعد اللاعقل في عملية تنفيس مرضي جماعي يائس أو آمل في.. أي شيء عدى المجرَّب.
سلوك الرئاسة الآن تحكمه محددات موضوعية:
شخصية الرئيس التي يمكن تلخيصها في أنها شخصية بمخيال تراثي محافظ يتمثل عاطفيا الأخلاق الدينية، ويتقاطع مع الرؤية الفقهية القديمة في التشريع، موقفه من قضية المواريث. ولكن المخيال الثقافي لا يتجاوز تأثيره السلوك الشخصي واللغة المهذبة إلى القرار السياسي الاستراتيجي.. هنا ليست أخلاق الرئيس هي المحددة، بل مصالح القوى الدولية النافذة عبر أدوات التأثير المعروفة والمجهولة.
أدوات الضغط الخارجي، والفرنسي تحديدا بحكم الأسبقية التاريخية وبحكم الانتفاضة الفرنسية الأخيرة في مواجهة الاستراتيحيا التركية في شمال افريقيا، هذه الأدوات حقيقية وفعالة وقوية.. ومن ضمنها فريق الرئيس طبعا.
لست مع ما يروج من روايات أسطورية حول رئيسة ديوان الرئيس، بل أن شخصها غير مهم عندي مطلقا، ولكنني أرى أن سلوك الرئاسة كله ليس بمنأى عن المواجهة الدولية الجارية في الإقليم.
ها أن الأحزاب المحسوبة على الجديد تنتبه، بكثير من التأخير، إلى حجم الإسفاف الذي تردت فيه، حين انهمكت في مناكفات صبيانية وغرقت في جزئيات مضللة أفاقت بعدها على خطر خوضها السياسة من دون رؤية كلية شاملة للخارطة الوطنية والاقليمية والدولية. وها هي تنتبه إلى أن الرئيس غير السياسي كان يحتاجها خلال الأيام الأولى لدخوله إلى السياسة، ولكنها انصرفت عنه إلى التصابي، وتركته فريسة لمصانع السياسة الدولية، ولشياطين السلطة المقيمة في القصور وفي القلوب.
خطاب الرئيس.. هراء.
بدأ بالطاهر الحداد.. وكتاب مجهول لمحمد السنوسي عنوانه تفتق الأكمام، لا توجد أي نسخة منه، يعني لم يقرأ ولم ينتشر ولم يترك أي أثر في الناس، ثم مقالة لم تطبع أصلا لعثمان بلخوجة عنوانها مبلغ التونسيين من الحرية.. لينتهي إلى أن علاقات الأسرة ليست من شأن الدولة.. لأن الإنسان داخل داره ليس مواطنا بل شخصا.. ونسي أن الميراث شأن اقتصادي.. والاقتصاد شأن الدولة بالضرورة.
ثم انطلق في هراء حقيقي.. الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لن تدخل الجنة أو النار. والدولة ليس لها يوم حشر. والدساتير لا تدخل بيوت الناس.. البيوت لها حرمات تخشاها نصوص القوانين.. وشرائع الأرض تهاب شرائع السماء. في البيوت ربات حجال.. وستائر وأسدال… وعمر ابن الخطاب حكم لحبيبة زوجة فلان بنصف تركته لأنها كانت شريكته في شركة خياطة.
كل جملة من الخطاب تصلح مادة لليأس.. أو الضحك. حتى آية كنتم خير دولة أخرجت للناس…
باختصار.. لمن يظن أن لي موقفا مسبقا من الرئيس أقول.. استمعت إلى جعيط وإلى توفيق بكار وإلى بوحديبة… وأستطيع بسهولة أن أحدد الزمن المعرفي الذي يتحدثون منه وفيه… أما الرئيس فأقسم أنه يتحدث من زمن لا نعرفه.. وإلى جهة داخله لا نراها.