من المفارقات أن بعض المواقف من وجهة نظر المتلقي لا ترتقي الى الحد الأدنى من مناهج التفكير السّليم، لكنّ أصحابَــــها يدافعون عنها وكأنّها حقائق مُطلقة. فتقريبا، طيلة العشر سنوات الماضية، كلّ المواقف، كلّ التصريحات، كل القرارات، كل التعيينات، كل الازمات المالية والصّحية والديبلوماسية، كلّ المآتم والأعياد الرّسمية، كلّ قوانين المالية... كُلُّها لم تخلُ من المشاحنات والصِّدامات الكلامية الى حدّ الترويج للتشنّج والتضخيم الذيْن يُجزِّآن المجتمع الى مجموعات متضادّة ما يهدّد وحدته.
وحتى بعض الوزراء الذين كان أداؤهم سلبيا ولم يقدموا بالبلاد الى الامام، يواصلون أنشطتهم في الاعلام بإعطاء الدروس في الميادين التي فشلوا فيها بكل ثقة في النفس وكأنّ التونسيين كُتب عليهم أن يتحملوا إضاعة الوقت خلال مسؤوليتهم وبعدها بالاستماع إليهم.
ومن أهمّ الأسباب لذلك، والتي تحتاج الى تفصيل نقتصر على:
(1) ارتفاع منسوب عدم الثقة داخل المجتمع في الازمة الاجتماعية المُختزلة في تعدّد المرجعيات القيمية والسلوكية، والأزمات الاقتصادية المتكررة، بحيث كل الأحداث والمواقف تُؤخذ على أنّها "مناورة غير نزيهة" حتى في انعدام الإثبات،
(2) المزالق المنهجية في قراءة الواقع مثل العاطفة والايديولوجيا والبحث في سطحيات الأمور،
(3) الدّور المسطِّح والمُدمِّر للوعي الذي يلعبُه الخطاب الشعبوي من جهة وبعضُ صُنّاع الرأي في الإعلام من جهة أخرى بالوقوف عند هوامش الأحداث والتطاول على أعلام البلد والنيل من أصحاب الرأي المُخالف والعلماء والمتخصّصين، والتنصّب كمُحتكرٍين للحِكمة، والاصطفاف لطرف دون آخر. يُقرّرون النجاح والفشل، والحُسنَ والقُبح، والانتصار والهزيمة، ويُغذّون الكراهية وخيبة الأمل لدى الشباب والتنكر للبلد،
(4) استقالة غالبية النّخب المثقفة عن دورها في ملء الفراغ وفي تعميق الفهم لدى العامة للقضايا والتحديّات المُشتركة، بل انخراط جزء منها في نشر ثقافة الانتظار وعدم الحركة وتحمّل مصير الأحداث التي لم يكونوا طرفا فيها، هذا إذا لم يتقمّصوا دورَ المروّج بالوكالة للصّراعات الايديولوجية والمناورات السياسية بدون وعي.
ولعلّ هناك سببا آخر لا يقل أهمية على الأسباب أعلاه وهو اعتبار تلقائية العديد من المنخرطين في الصراعات والاحتجاجات، بحيث لا يتّفقون في فهم نفس الحدث أو الموقف. والأمثلة كثيرة. فمنها أنّ "الثورةَ بقرةٌ حلوب" للاستفادة الشخصية منها، ومنها أنّ نفس الثورة هي "فرصة لإلغاء الآخر"، ومنها أنّ الثورة هي "ترسيخ قيم هويّة معينة والعمل على ضرب القيم الأخرى"، ومنها أنّ الثورة هي "إعادة النظر في سُبل الوصول الى الريع وازاحة الذين استفادوا منها سنينا طوالا" ومنها انّ الثورة انما هي "ترسيخ المواطنة" بأبعادها المتعددة.
وكذلك هناك مثل آخر متعلّق باللجوء الى كفاءات النظام السّابق. فهؤلاء كانوا طرفا مباشرا في سقوطه ولم يلتفوا حوله ولم يدافعوا عنه لأنهم لم يكونوا مؤمنين به ولم تكن بالتالي لديهم قيمة المغامرة الحقيقية ونكران الذّات. يُعتبَــرُون "رجالَ دولة خدموا البلاد" – وكأنهم اشتغلوا مجّانا ولم يستفيدوا من الريع– و"كفاءات خارقة" لم تنجب تونس سواهم ووجب ارجاعُهم بسبب "فشل الذين جاءوا من بعدهم "!
وكأنّ قدرَ التونسيين – بهذا المنطق–أن يقومَ على شأنهم امّا الفاشلون القُدامى أو الفاشلون الجُدد. هذا، وإنني شديد التأكّد أنّ ضمن القُدامى ممّن لا يستطيع أن يحكم ربع ساعة في ظروف أعوام 2012-2016، حيث وصلت الحريات من جهة والاغتيالات السياسية من جهة أخرى أوجها وكذلك التحديات الاجتماعية والإقليمية واستراتيجيات مجموعات الضغط.
حتى أنّ أحدَهم من الذين ترشحوا للرئاسية عام 2014، تخلى عن السباق بسبب "العنف الذي يهدّد البلاد" مثلما صرّح بذلك، وكانّه لا يستطيع أن يحكم إلاّ في هُدوء النّاس وتسليم أنفسهم للحاكم وانصياعهم له سمعًا وطاعةً، أي "غير مواطنين"، أو في حُكم عسكري....
أخيرا، من المهم أنّ ترتقي النخب السياسية والإعلامية والمثقفة بخطابها، بهدف تعزيز النظام اللغوي المتداول حتى تكونَ مفرداتُه حمّالةً لمعاني المواطنة والمسؤولية الاجتماعية ونشر الوعي لدى العامة بمخاطر السذاجة الفكرية التي تروّج لها التيارات الشعبوية. ولن يكون ذلك سهلا الاّ باتحادهم حول المُشترك الوطني والمُضي نحو الإنجازات التي ينخرط فيها المواطن وأهل الذكر.