رحلت بعد ماذا؟ هذا هو السؤال المهمّ والأهمّ.. هذا هو بيت الديوان وليس بيت القصيد فحسب! لقد شاركت حليمة في مقاومة النسخة الأولى من الدكتاتوريّة، ثمّ شاركت في مقاومة النسخة الثانية.. إذا هي كانت هناك في وجه البورقيبيّة والنوفمّبريّة.. هي أيضا ابنة الهويّة، بها نافحت وعليها عاشت ومنها انطلقت نحو ساحات النضال..
وهي التي كانت في قلب معركة الحريّة، حيثما اجتمع النّاس للدفاع عن فكرة أو رأي أو رؤية تمتّ للحريّة بصلة، كانت هناك تزاحم بل وتفتك مكانها في الصفوف الأولى.. الثورة؟! يكثر الحديث عن عشقها للثورة.. علينا أن نحصي المحطّات التي غابت عنها وليس التي حضرتها، لأنّ حضورها كان الأصل والغياب هو الاستثناء..
ماذا تبقّى من ميادين الشرف؟!
أي نعم القضيّة الفلسطينيّة.. فلسطين تعرف حليمة كما تعرف خنساء غزّة وعرائس مواكب الشهيدات والاستشهاد، ثمّ من هي السيّدة التونسيّة التي توشّحت بالكوفيّة الفلسطينيّة فزيّنتها قبل أن تزيّنها وسكبت فيها عناوين الطريق السيّارة.. الطريق الطويلة.. الطريق الشريفة.. حيث وهناك على القارعة، محطّات استراحة، ليست لتعبئة البنزين وإنّما للتسليم والاستلام، محطّات على طول الطريق السيّارة المؤدّية إلى القدس، في كلّ محطّة مشعل ومقبرة، يستريح البعض تحت الثرى ويسلّم المشعل للبعض الآخر كي ينطلق.. مساء السبت إلى ليلة الأحد استراحت حليمة، سلّمت المشعل لحرّة انطلقت به الله يعلمها، ثمّ جنحت المتعبة إلى التربة... "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى".
إلى ذلك ومع ذلك هذه سيّدة تحسن تغيّر النظرة المعلّبة للمرأة، هذه سيّدة وقبل أن توارى التراب تمكّنت عبر مسيرة مشرقة من مسح التراب عن المضامين الراقية للأنثى، لقد غيّرت حليمة وجهة الذوق من الشحن الأنثوي المصنّع إلى فطرة الأنوثة التي ارتضاها صانع الكون العظيم... ها أنتم تحبّون حليمة بهيئتها وجميع تفاصيلها، بل تستعذبونها وتتمنّون عودتها للاقتراب منها والحديث إليها والاستئناس بها كلّها.. ها أنتم تبجّلونها على وجبات الأنوثة المعدّة في المصانع والمخابر والصالونات... حتى أقنعتكم حليمة بذلك كانت قد قطعت مسيرة طويلة مرصّعة بالقصص الجميلة.
لقد ماتت.. يعني رحلت.. بمعنى توفيت.. تلك حقيقة مطلقة وذلك هو مصير الجميع، فقط هي الأقدار تصفّف القائمات وترتّب الأسماء بما يستجيب إلى حركة الأرزاق وسنن التداول والإعمار... لكن الحقيقية الغير مطلقة والتي لا تنسحب على الجميع، هي كيف رحلت وماذا فعلت قبل أن ترحل وما نوعيّة الزاد الذي اصطحبت؟
• زادها سجال مع الدكتاتوريّات
• مسيرة في ركاب الحريّات
• عمليّة انحياز سافرة لهويّة الأمّة وثوابتها
• انصهار في ثورة سبعطاش ديسمّبر التي كرّمت الإنسان التونسي وفتحت المجال لتكريم الإنسان العربي
• ثمّ لعلّها موتة في مرتبة شهادة في سبيل الله.. لعلّ الله يمنّ على ضحايا كورونا فيتحوّلون إلى شهداء كورونا.
اللهم ها هي وفدت عليك بعد أن أقرّت بوحدانيتك وبعد أن عبدتك وبعد أن استعانت بك، اللهم يا ربّي اجعلها من الذين هديتهم إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم.
اللهم إنّك تعلم أنّ زلّاتنا كبيرة وغفلاتنا طويلة.. وإنّنا وإيّاها ليس من بضاعة لدينا ترتقي إلى مستوى نعمك، وليس لنا حجّة تضاهي حجّتك علينا، غير أنّها وإنّنا نعول على بضاعة الحبّ، اللهم إنّنا نحبّ دينك ونلتمس نصرته ونفرح بنصره، ونحبّ رسلك وننتشي بتبجيلهم ونحبّ حبيبك ونلهج بالصّلاة عليه، ونحب كتابك ونرفع مقامه، ونحبّك ونفردك بالوحدانيّة والعبادة.. اللهم إنّ تلك بضاعتها وبضاعتنا، فاجعلها واجعلنا من الذين قلت فيهم " وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ".