على وقع حركات احتجاجية صاخبة في تونس، شملت عدة مناطق وقطاعات حيوية، علاوة على مرافق عمومية، لعل أهمها القضاء، وخدمات إدارية عديدة أخرى، بدأ تدريجيا الحديث عن ضرورة عقد حوار وطني، علّه يكون مدخلا مهما لإنقاذ البلاد مما تردّت فيه خلال الأشهر الأخيرة.
حين سقطت حكومة إلياس الفخفاخ، نادت أصوات عديدة بضرورة التخلص من حكم "السياسيين"، ولو كانوا منتخبين، واستقدام التكنوقراط، علهم يكونون طوق النجاة لبلدٍ تترنّح سفينته. وتبدو لبعضهم نموذجا يُحتذى تجربة حكومة المهدي جمعة التي جاءت بعد الحوار الوطني الذي قاده الرباعي الراعي للحوار، أواخر سنة 2013، وحاز به جائزة نوبل للسلام سنة 2014، نظير جهده المبذول لإنقاذ البلاد من أتون حرب أهلية وتعزيز دعائم الانتقال الديمقراطي، غير أن الأمور لم تجر كما اشتهت رياح تلك الأصوات مع حكومة التكنوقراط الثانية التي يقودها حاليا هشام المشيشي.
ها هي هذه الحكومة تتعثر، وهي تعبر منطقة عواصف عنيفة تعودت البلاد عليها عقودا، فكلما اقتربنا من نهاية السنة تهيج ذاكرة الاحتجاج لتغمر مناطق وقطاعات عديدة، خصوصا أن البلاد مهيأة موضوعيا لكل هذا من دون اعتبار هذا الحنين، جائحة تستفحل، حيث ارتفعت أعداد الوفيات الناجمة عن كوفيد 19، علاوة على أزمة اقتصادية مستفحلة عمرها عقود.
تختلف هذه المرّة الأزمة التي تمر بها تونس عن سابقاتها، بل يذهب بعضهم إلى أنها الأكثر حدّة. إنها أزمة معقدة ومركبة في سياق صعب. كانت فئات عديدة منخرطة في مشروع الانتقال الديمقراطي، تحت سماء واسعة من الأحلام، لها ثقة كبرى في قدرة نُخبها على الرسوّ بالبلاد في شاطئ الأمان.. ضرب الإرهاب تونس، وظل الناس ينتظرون دستورا يليق بثورتهم وانتخابات تجسد إرادتهم الحرة التي استعادوها، بعد أن دفعوا ضريبة غالية. مرّت سنتا الترويكا، بمرّها وحلوها، وجرت الانتخابات في موعدها تقريبا، ثم تشكّلت حكومات لم يعد يتذكر التونسيون عددها، ولا أسماء أعضائها، من دون أن يتغير حال معاشهم، بل تقهقر في مجالات عديدة.
رحل الباجي السبسي الذي جاءت به انتخابات ما بعد الحوار الوطني. وبوفاته يبدو أن التونسيين دفنوا آخر رموز الدولة الوطنية: شخصية ملفوفة بنسيج معركة التحرّر وبناء دولة الوطنية وأيديولوجيا التحديث، مع نكهةٍ أبوية فائضة، تنتهي إلى حواسّنا، ولو على بعد سنوات ضوئية من هذا البلد. بكى التونسيون، عند رحيله، أبا، فيما يشبه شعائر اليتم السياسي. جاء بعده قيس سعيد، قادما من ثقافة سياسية أخرى، لا تمتح من هذه المرجعية. علّقت عليه آمال عريضة لإخراج البلاد من فوضاها وأزماتها المتعدّدة، غير أن ذلك كان حلما فهوى.
ولهذا يختلف الحوار الذي قد ينعقد قريبا عن حوار 2013 الذي كانت إحدى مهامه تأمين خروج حكومة الترويكا، وقدّمت حكومةً غير متحزبة، أوكلت لها مهام تنظيم الانتخابات والخروج من وضع السلطات المؤقتة إلى سلطات دائمة يحكمها الدستور والقوانين المعمول بها. يعود اختلاف هذا الحوار الذي تنادي به بعض الأحزاب، وحتى الشخصيات السياسية الوطنية، إلى جملة من الأسباب، لعل أهمها أن الحكام الحاليين يتمتعون بشرعية انتخابية، فمؤسسات الحكم المختلفة التي نشأت على إثر انتخابات 2019، سواء رئاسة الجمهورية أو مجلس نواب الشعب أو رئاسة الحكومة، جاءت تجسيدا لإرادة الصندوق. إنها مؤسسات الحكم الديمقراطية حتى ولو كانت مشوهة. وإذا صدّقنا أن هناك إجماعا على ضرورة الحوار الوطني من أجل استبعاد فرضيات عديدة، مدارها الخشية الحقيقية على كيان الدولة التي احتضنت الاجتماع السياسي للجماعة الوطنية منذ قرون، فان استراتيجيات الفرقاء ونياتهم مختلفة.
يبدو أن رئيس الجمهورية غير راغب في الحوار، أو على الأقل غير متحمّس له، وربما يعوّل عليه إذا ما انعقد لإسقاط حكومة المشيشي الذي تمرّد عليه، وتعود العهدة إليه مجدّدا. أما رئيس الحكومة، فإنه يدرك أن أحد الحلول الواردة، لو انعقد الحوار، هو رحيله، خصوصا وأن أكثر الأحزاب حرصا على عقد هذا الحوار تناكفه، وتعمل جاهدة على إسقاط حكومته، وقد يكون الاتحاد العام التونسي للشغل من بين هؤلاء، بل إن هناك من يدفع بعضهم إلى تأزيم الوضع، حتى يكون الحوار طيا لصفحة من يحكم الآن وكامل الحزام السياسي الذي يدعمه، ولربما طمس معالم مرحلة بأكملها.
لن يكون الحوار إذا انعقد حلا سحريا لأزمات تونس، على أهميته، فالبلاد تحتاج ثقافة سياسية تروّض شعبا لم يعد قابلا لأن يُحكم أو ينقاد لدولة تعطلت أهم وظائفها: أن تمنح لمواطنيها الكرامة، وهذه شعار ثورتهم.
إن كانت لهذا الحوار من فائدة فهو تأكيد التونسيين، وإن ضاقت بهم السبل، أنهم غير مستعدين لسماع البيان رقم واحد الذي ينادي به بعضهم جهرا.. يحرّض أحد أساتذة القانون الدستوري الذين نظّروا لاستبداد بن علي رئيس الجمهورية على خرق الدستور، وتنظيم استفتاء من أجل نسف منظومة ما بعد الثورة جملة وتفصيلا. إنه انقلاب "حلال"، ومع ذلك لن يحدث أيضا.