بعد عشر سنوات من اندلاع الثورة في تونس، ما زالت الأسئلة الكبرى تلاحق النخب السياسية والفكرية، خصوصا المتعلقة بنمط المجتمع، ثقافة المواطنة، علاقة الناس بالفضاء العمومي، القيم ومكانتها في الاجتماع السياسي .. . غير أن هذه النخب لم تولِ هذه القضايا المصيرية ما تستحق من اهتمام. انخرط الجميع، أو يكاد، في سجالات سياسية راهنة، تتسم بالمغالبة والعناد، على أمل أن ينقرض الخصم، أو ينسحب من حلبةٍ أصبحت حقيقة مدعاة للرثاء، لما فيها من عنف وهرج، والبلاد تتدحرج إلى أوضاع اقتصادية واجتماعية مخيفة.
تظل العلاقة التاريخية المعقدة التي جمعت الدولة والمجتمع من أوليات القضايا التي علينا، نحن التونسيين، أن نشتغل عليها، ونجيب عن أسئلتها المطروحة. لقد تجلّى ذلك في تمثلات الناس/ المواطنين للدولة وتصوراتهم لوظائفها، فمنذ الثورة تم بناء تصوّرٍ للدولة يجعلها عصا سحرية، عليها أن تستجيب لكل طلبات المواطنين: من الماء الصالح للشراب إلى حمايته من الاحتباس الحراري.
هذا التصوّر ناجم عن رغبةٍ ما في دفع الدولة إلى التعويض عن هذا التقصير التاريخي الذي رافق وظائفها، خصوصا تجاه مواطنيها، فلم ينظر لها يوما ركن استقرار وحّدتهم، ومقوم الوجود الاجتماعي والسياسي للجماعة الوطنية التي ينتمون إليها. تؤشّر التحرّكات الاحتجاجية العديدة، فضلا عن فقدان الاستقرار السياسي، عن هذه الأزمة، فقد بلغ سجال المد والجزر بين المجتمع والدولة عتبةً حاسمةً في السنوات الأخيرة، حتى وصل إلى الانقطاع.
قد تتسع السياقات الانتقالية لإعادة ترتيب هذه العلاقة، بل تقتضي الضرورة أحيانا إعادة صياغة "الصفقات التاريخية الكبرى" بين الدولة والمجتمع. لم يعد بالإمكان أن يتواصل نموذج الإذعان والتبعية المفرطة لهذا الطرف أو ذاك، حتى تستعيد العلاقة توازنها المفترض، بعيدا عن محاولة الثأر من الدولة المستبدّة فائقة الحضور التي حاصرت هذا المجتمع، ضمن مساراتٍ عديدةٍ من دولنة المجتمع، وهي سمةٌ تونسية خالصة.
ما يشغل المتتبع للشأن التونسي هي حالة الانفصام الحادّة التي برزت خلال السنوات الأخيرة بين المجتمع والدولة، غذّتها عوامل عديدة: صراعات المجتمع السياسي وضعف أداء المؤسسات واختلالها الوظيفي، انفلات اجتماعي، اختلالها الوظيفي، ارتفاع أشكال المطلبية القادمة من ثالوث مربك: فئات وجهات وقطاعات؛ حتى بدت الدولة لدى بعضهم عاجزة وضعيفة، وهي تواجه مجتمعا "يتعملق"، ويمتد على حسابها: وظائف ومجالا ونفوذا وسلطة.
وإذا كان للدولة التونسية "تراث دولوي عميق"، على خلاف تجارب عربية ومغاربية، يعود إلى أكثر من ثلاثة قرون، وتحديدا منذ عهد حمودة باشا الحسيني المرادي العثماني (حكم تونس من 1782- 1814)، غذّت شرعيتها ومشروعيتها أزمنة طويلة، وعزّز تشكلها وتجذّرها في وعي الناس وإدراكاتهم وجودهم السياسي، فإنه لا يمكن الاستهانة بمخاوف حقيقية يبديها خبراء وأكاديميون، وهم يقفون على بعض وهن اعترى الدولة وتوتر علاقتها بالمجتمع.
كانت لحظة الاستقلال سنة 1956 حاسمة في إعادة تشكيل الدولة التونسية، حتى استوت حاضنةً للجماعة الوطنية، بعد استعادة السيادة الوطنية التي رافقها بناء سيادة الدولة أيضا، حيث تمكّنت من بسط هيمنتها ونفودها على عشرات القبائل والزعامات المحلية والمناطقية، غير أن علينا أن نعترف بأن هذه البنى التقليدية كانت تحتضر.
لقد تم إنهاكها منذ شنّ عليها الاستعمار معاركه الطاحنة. تمكّن من إضعافها وتفتيتها وإرغامها على الاستقرار والقبول به، كما كان للتحديث الكولونيالي دور مهم في الإجهاز عليها. حين تقلدت النخبة الوطنية مقاليد السلطة وقادت الدولة، لم تجد حقيقة سوى أشباح قبائل تقطن في وجدان الناس وحنينهم. مع ذلك، عوّلت هذه النخب، بقيادة بورقيبة، على عقد الصفقات التاريخية الكبرى بين الدولة والمجتمع التي تتالت من أجل ترابطٍ وثيقٍ استمر عقودا طويلة.
قدّمت الدولة نفسها حاضنة للمجتمع، راعية له، فقدّمت خدماتها (الصحة والتعليم ..)، ومنحت للمجتمع هويته. ربما تحتاج تونس حاليا إلى مراجعة هذه الصفقة، وإعادة إنتاج صفقاتٍ أخرى، أو في ضوء ما تمليه سياقات الثورة والانتقال الديمقراطي.
شهدت الدولة تراجعا مريعا في "قوتها"، حتى بدت ضعيفةً فاقدة القدرة على فرض هيبتها وبسط نفودها. رأينا مشاغبين يعطلون مصالح المواطنين، ويشلون قطاعات الإنتاج الأكثر حساسية (بترول، فوسفات ...) في سياق اقتصادي يهدّد بالإفلاس. يحدث هذا يوميا، مستندا إلى ثقافات فرعية، خلنا أنها اندثرت تحت ضربات التحديث المتتالية: المظلومية الجهوية (المناطقية) والعروشية (القبلية). نتابع نكوصا مريعا في علاقة الدولة بالمجتمع.
لم يعد بالإمكان أن تواصل الدولة شراء مشروعيتها، أي قبولها الأخلاقي والأدبي، بما تقدّمه من خدماتٍ لفائدة مواطنيها، كما لا يمكن أيضا أن تحرز اعترافهم بها من خلال العسف والقوة، فهذه فرضياتٌ لا تليق بدولة ثورة. ولكن على الدولة أن تبني صفة تاريخية مجدّدا مع مجتمعٍ يتحرّر منها تدريجيا، ويحرّرها هي أيضا من الوهن والابتزاز.