لا اعتقد ان التراشق الاعلامي بين الفرقاء السياسيين امرا مُجديا. اجدى منه ان نجعل منهم موضوعا للتفكير ونُشخِّص ازمتهم التي هي ازمتنا حتى نصل الي ملامسة الشروط الاولية لنهضة شاملة وميلاد قوى سياسية خالية من الامراض العضال التي تعوق " النخبة" الحالية.
1)لنُسَجِّل اولا ان مفهوم " النخبة" فقد إرجائيته منذ 2010-2011.
اولا: لم يعد بالإمكان الحديث عن النخبة في عالم اصبحت فيه المعرفة ممكنة ومعطاة للجميع ولم تعد كما كانت في القرن التاسع عشر حكرا على طبقة او فئة.
ثانيا: لاحظنا منذ 2011 ان الطبقة السياسية ( نخبة. الستينات والسبعينات) هي العائق الوحيد امام التطور نحو الديمقراطية،وهذا امر يسهل فهمه: بعد الاستقلال اصبحت هذه النخبة هي النظام مع ما يعنيه ذلك من سلطة وثروات وراسمال رمزي.
ثالثا: " الجدد" الذين يتصارعون الان هم في الحقيقة قدامى: لقد تشكل وعيهم واساليب عملهم على هامش السلطة فورثوا اسوء ما فيها: جوهرها الذي قامت عليه: فكرة الخلاص التي تحتكرها النخبة اليعقوبية.
رابعا: مفهوم " النخبة" يعني الريادة والطليعة والقيادة والوعي. هذا وقع تكذيبه في مناسبات عِدة: عندما كانت النخبة تحاور بن علي او تدافع عنه كان الوعي الجديد والغير مُهيكل ينادي بإسقاط النظام. عندما غرقت " النخبة" في وساوسها الايديولوجية كان الوعي الجديد يضع الاصبع على منوال التنمية والعدالة الاجتماعية. لقد تغير الترتيب الهرمي: لقد اصبحت النخبة في الاسفل تحاول اللحاق والتأقلم مع وعي جديد غير مُشكّل الي حد الان.
2)ما يحدث الان هو صراع بدون اي مضمون. لم نسمع اي برنامج تفصيلي لحل مشكلة واحدة. هناك شعارات واعلان نوايا وكلام عام : " محاربة الفساد" بدون برنامج مُعلن. " التشغيل" بدون بيان مصادر التمويل. هناك عجز عن تصور البرامج يقع تعويضه بالتسويق للاشخاص: " نحن نظاف اذن نستطيع ان.."
3) هناك مواصلة للصراعات القديمة بدون اي اعتبار لمصلحة الشعب : وراء الاشتراطات و" الافكار" ( حكومه الرئيس) - التي هي شكل محتشم من حكومة المهدي جمعه- عملية قفز وإلغاء لنتائج الصندوق. وراء هذا الانسداد ثلاثة توجهات: هناك من يريد تصفية حسابات تعود لحادثة المنشية ثم ليبيا وسوريا فوق الارض التونسية. وهناك من ذاق طعم المشاركة في السلطة يريد ان يضغط حتى لا يخسر منزلة اكتسبها بفضل الحوار الوطني. وهناك الخاسر في الصناديق ولكن يريد البقاء في المناصب. هناك الاعلام الفاسد الذي يخشى اصحابه المحاكمة. سوف يجتمع كل هؤلاء حول الاتحاد وسوف تُفتح لهم المنابر الاعلامية
4) هناك خوف من مواجهة مشاكل التوانسة وبالتالي خوف من الاندثار خاصة وان المزاج التونسي متقلب جدا ومثال النداء 2014 والنداء 2019 مصدر للفزع.
5) اخطر من هذا كله : لم يصلوا بعد الي اليقين بان الشعب التونسي يواجه تحديات لا يستطيع فصيل واحد مواجهتها مهما كانت قوته وشعبيته وعبقريه اعضائه ونظافة ايديهم. ولو فرضنا عبثا انه يستطيع لن تتركه ضباع الداخل. ولو فرضنا انها تركته لن يسلم من ذئاب الخارج.
تونس تعيش انهيارا شاملا لا يواجه الا بمشروع نهضه شامل وهذا لا يتحقق الا بوحدة كل القوى السياسية حتى يضمن اعرض جبهة داخليه ممكنة تحمي المشروع وتتحمل اتعابه. اللحظة شبيهة الي قدر كبير بلحظة التحرر من الاستعمار المباشر. بمعنى: التناقض الرئيسي ليس بين الاسلاميين والقوميين او بينهما وبين الحداثيين او اليساريين، انه بين الاستعمار والقوى الوطنية.
معيار الوطنية هنا هو المشاركة مع الاخرين،لان اي خروج هو اضعاف لهذه الجبهة. لا يجب إخراج احد الا من اخرج نفسه. الوضع ليس وضع حكم ومعارضة. الطريف ان يتحدث عن الكتلة التاريخية عابد الجابري وانور عبد الملك ( الفكر العربي في معركة النهضة) وجماعتنا لم يتفطنوا بعد لهذا. سيقول الصبيان والاتباع الذين يستمرؤون السِّباب والتشاتم الفايسبوكي " هذه طوباوية..هذا مستحيل".
ابق هكاكه سياتي من يجعلون المستحيل ممكنا. من يرى الكتلة التاريخية طوباوية انما يرى النهوض مستحيلا، وليأتنا بتجربة نهضاوية واحدة قامت بها قوى سياسية متناحرة. لذلك نقول ان " نخبتنا" الحالية هي اكبر عوائق التنمية. انهم خطر علينا.
هؤلاء مشروع فشل. علينا التأسيس لجيل جديد يكون مُهيأ فكريا وسياسيا لمواجهة مشكل النهوض. ليس لنا حل غير خلق جيل جديد .