مبكرا جدا.. وصلنا مرحلة اهتراء الأحزاب.. قبل أن نجرّبها فعليّا. ترذيل إعلاموي شعبوي عامّي بليد لفكرة الحزب والتحزّب.. نتج عنه أننا لا نجد حزبا حقيقيا في المشهد.
الأخطر والأنكى أن هذه النتيجة الكارثية على الديمقراطية ساهم في حصولها قيادات حزبية مسكونة بهاجس الزعامة السلطانية المريضة.. فخرّبت بأيديها أحزابا من الداخل وأفرغتها من الكفاءات ومن أسباب النموّ والحياة.. وضيّعت على الديمقراطية نواتات ومشاريع أحزاب كبيرة وحقيقية.
الشابي بعد الثورة ضيع إرث الب. د. ب. الذي كان مدرسة حقيقية في التفكير والتجريب الديمقراطي. وبدرجة أقل المرزوقي في المؤتمر وبن جعفر في التكتل.. ثم حمة والرحوي اللذان خربا مشروع اليسار.. ولكن بدرجة أخطر محمد عبو الذي أنهى عمليا حزب التيار في ظرف سياسي دقيق.. وقد كان حزبا مؤهلا لمدّ الديمقراطية بأنفاس جديدة. التيار بعد اندثار أغلب الأحزاب كان مشروع حزب ديمقراطي شعبي شبابي واعد، فألقى عبو داخله قنبلة الدعوة إلى الإنهاء الفوري للمنظومة السياسية الحالية بدعوى أنها غير قابلة للإصلاح، ليراهن على رئيس يدعو إلى ديمقراطية الحشود. ديمقراطية تنطلق من الأسفل إلى.. سعيّد وعبو.. ثم عبو من دون سعيد.
بعد عبو خسر التيار طاقة الدفع نحو التطور وصار منشغلا بالحفاظ على وجوده.
الغنوشي أنجز في تخريب النهضة ما لم ينجزه خصومها. فتح معارك داخلية عبثية مع رموز مؤسسة بغاية إفراغ حركته من كل صوت يعطل وصوله إلى رئاسة الدولة سنة 24. وبقطع النظر عن تفاصيل معركة المائة ونجاح النهضة في لملمتها والحد من تداعياتها إعلاميا، فإن أكبر خسارة منيت بها النهضة هي انفراط العقد الأخلاقي الناظم للمنتمين إليها. عقد كان يمكن أن يؤسس لحزب ذي تمثيلية مجتمعية وثقافية تحتاجه ديمقراطية مبتدئة في بيئة تبحث عن مدخل ولو صغير إلى زمن الدولة.
إلى هؤلاء جميعا ينضاف جيل "اللامعنى".. ورئيس "اللافكرة".. فأتذكر عقل التاريخ البارد، وتلك "… التي نقضت غزلها من بعد قوة…".