ما يجري في تركيا من أعمال انتقاميّة ضدّ العرب والأفغان والأفارقة وصلت حدّ التّوحّش تعنيفا وتقتيلا وحرقا للممتلكات ليس حالة معزولة أو بريئة. ثمّ إنّها لا تستهدف الأجانب بقدر ما هي فعل يترجم صراعا داخليّا عميقا بين ما أسماه أردوغان "الأتراك البيض" و"الأتراك السّود" لا بمعنى اللّون المتعارَف عليه وإنّما بمعنًى سوسيولوجيّ يصوّر التّنازع بين نخبة أتاتوركيّة علمانيّة مستعلية وأخرى متديّنة نشأت مع وصول طيّب رجب إلى السّلطة بعد تراكمٍ معلومٍ بدأ مع نجم الدّين أربكان…
ما يزال الشّقّ الأوّل الموالي للغرب يبحث مستغلّا محاولات جهات عالميّة معلومة تقسيمَ دُول المنطقة فيما بينها من جهة وفيما بين مكوّنات الواحدة منها من جهة ثانية عن حماية نفوذه السّلطويّ والماليّ ويأبى التّفريط فيه شأنه في ذلك شأن نظرائه في كثير من الدّول العربيّة التي اعتبرت مخالفيها ذوي التّوجّه الإسلاميّ خطرا على امتيازاتها التّاريخيّة وغنائمها المادّيّة والمعنويّة التي تُراد لها الاستدامة مهما كانت الوسائل والطّرق والأدوات: العنف بأنواعه الممكنة، التّهم الكائدة، التّشويه الممنهج الذي انطلى على العامّيّ والمثقّف، إعادة قلب الطّاولة السّياسيّة باستقدام العسكر كما حصل في مصر مثالا لا حصرا…
لقد وصل الأمر ب"الأتراك البيض" إلى استخدام سلاح التّشهير والتّحقير ضد مواطنيهم الذين يتمسّكون بهويّتهم الدّينيّة وقِيمهم الاجتماعية الأصيلة (الأتراك السّود)عن طريق مقالات صحفيّة خلال السّنوات الأولى لوصول حزب العدالة والتّنمية سخرت من هؤلاء المواطنين المتديّنين الذين قيل بأنّهم "يلوِّثون" بزيّهم المحتشم سواحل إسطنبول الجميلة صحبة زوجاتهم المحجَّبات، وهاجمت عاداتهم المستهجَنة في الأكل والشّرب انطلاقا من رؤية النّخبة العلمانيّة المتأوربة التي أمعنت في محاكاةً سلوك الغربيّين ونمط عيشهم…
محاولة تفكيك تركيا (لا دولة من دول المنطقة كما أسلفتُ في مأمن من ذلك حتما ) ارتحلت أدواتها إلى بعض البلدان الغربيّة حيث اندلعت بين الأتراك والأكراد (ملفّ دسِم يمكن توظيفه في الغرض) أعمال عنف اضطرّت سلطات البلدان المضيّفة إلى التّدخّل واستعمال القوّة المفرطة ضدّ الأتراك ممّا أجبر الخارجيّة التّركيّة على الاحتجاج، فضلا عن خروج كثير من أفراد الجالية التّركيّة في ألمانا إلى الشّوارع للمطالبة بتركيا بدون "أجانب" وهم "الأجانب"
المقيمون والمستثمرون خارج البلد ! (قد تكون ألمانيا نفسها من الجهات المشجّعة على هذه النّزعة المتطرّفة المهدّدة لوحدة تركيا).
ما حصل للسّوريّين والخليجيّين في بعض جهات تركيا لا يعكس موقفا عامّا للشّعب التّركيّ، وكلُّ تعميم باطلٌ لأنّه يستبطن نيّة خبيثة مبيّتة من قِبل أطراف لها مواقفها المعلومة من تركيا ما بعد الأتاتوركيّة. فلقد رأينا أتراكا يدافعون عن المستهدَفين وآخرين يقدّمون ورودا لضيوف البلد، كما شاهدنا حملة اعتقالات للمعتدين، وسمعنا وُعودا سياسيّة وأمنيّة بالضّرب بأيدٍ من حديد من أجل إيقاف هذه المهزلة التي إن تفاقمت أساءت إلى وضع تركيا الدّاخليّ والخارجيّ إساءة بالغة تضرّ باستقرارها الأمنيّ والسّياسيّ والاقتصاديّ ضررا بالغا.
ما يحصل تحدٍّ عميق لابدّ للسّلطة التّركيّة أن توليَه بالغ الاهتمام لا فقط بالقوّة الأمنيّة وإنّما بأساليب واستراتيجيّات أخرى عاجلة وآجلة حتّى لا يتّسعَ الفتقُ على الرّاتق.
فهل سيتمكّن الحزب الحاكم الذي لم يسترح كثيرا من المؤامرات الخارجيّة والدّاخليّة والذي يبدو أنّه يحمل في داخله نصيبا من أسباب ضعفه أن يتجاوز هذه الأزمة بسلام من أجل حماية "الأتراك السّود" المعدودين بالمفهوم التّونسيّ المستحدث ذات فترة "كرّاية" في مقابل "الملّاكة" ("الأتراك البيض") ؟!