السياسة بما هي صنعة/علم/قدرة/فنّ تصريف وتوزيع وضبط لخرائط القوة في المجتمع (الاقتصادية أولا وأخيرا.. والرمزية الثقافية أكثر في مجتمعات الوهم) هي صنو العنف الذي يراوح بين الخدعة المسالمة والجريمة العارية.
ضمن هذه المروحة العريضة من الممكنات تحرّك الباجي قائد السبسي على امتداد تاريخ تونس المعاصر. وفي كلّ حركته تلك تعلّم وتطوّر وراكم وتغيّر.. حتى انتهى به الزمن إلى كائن سياسيّ مرح. فأدار في بهتة من الجميع وضحكاتهم الهستيرية حينا والممتعضة أحيانا مرحلة انتقالية غامضة بنوع من التفرّد الشخصي البحت:.
حتى أنّني أجرؤ أن اتساءل: هل كان في تونس من يستطيع تعويض الباجي كشخص في دور "الجسر السحريّ المرن" بين قديم معقّد هو مزيج من الملحمة التحريرية والتأسيسية ثم الانحراف الفرداني المرضي مع بورقيبة اللاديمقراطي ثم مع الحكم المافيوزي العائلي لبن علي الأميّ.. من جهة،
ومن جهة ثانية جديد هائج فوضوي غامض متعدّد الأصوات أيام الثورة.. جديد تحدّث بلغة كل عائلات الإيديولوجيا مضافا إليها شباب متحرّر جديد وشباب سلفي مستلب العقل والوجدان؟؟؟
لعب الباجي ذلك الدور المفصلي العجيب مدفوعا على الأرجح بحب قديم تعتّق للسلطة، وبحنين شخصي خالص لزعامة متعطّشة لمحبة الشعب ربما كتعويض عاطفي ما (افتراض نفساني لا سند لي فيه غير حدس).
وفي سنة 2012 حين بعث الباجي حزب النداء كان القديم/الجديد الوحيد القادر على تجميع ما لا يجتمع من التونسيين حول مشروعه: منع استفراد النهضة بحكم البلاد.
ولعلّه بنجاحه في انتخابات 2014 أنقذ النهضة نفسها من حكم لا شيء يؤهلها لتحمّله. بل كان سيجرّ على البلاد دمارا لا يحتاج تصوّره إلى خيال باعتبار توفّر نماذج واقعية منه.
الباجي خاض معركة مصيرية ضد النهضة ومعركته الخاصة مع التاريخ بمرح السياسي المديني الشعبي المثقف التلقائي البذيئ الحكيم…
بوصوله إلى الرئاسة أصابه الدستور بخيبة في زعامته التي أرادها مطلقة. حاول المناورة على قيود الدستور ولم يستطع. فقد جسده الرغبة في رئاسة ناقصة. فمات بما يشبه المرح.