الآن وقد دفنا السبسي وانتقلت السلطة وشرعنا في تصريف شؤوننا استعدادا للمحطات القادمة، وقبل أن نطوي هذه الصفحة ونحول سجالها وأسرارها وأفكارها الى التأْريخ والمؤرخين، علينا أن نبين ما أخفته ماكينات الكلمة والصورة عمدا ومع سبق الإصرار والترصد، علينا أن نسأل كيف وصل الباجي الى نيل كل هذا التبجيل ومن ساعده في ذلك ولماذا؟
حتى ننجح في تفكيك الصورة علينا ان نبدأ من هناك، من لقاء باريس، الذي أطلقوا عليه لقاء الصفقات والحسابات والأسرار والمعلومات، أطلقوا عليه أيضا لقاء الخيانات! ثم استفحل التخوين بعد تنزيل سياسة التوافق على أرض الواقع، حين قبل السبسي بعدم المشاركة في نحر النهضة ثم المرور الى نحر الثورة، وقبل الغنوشي بترقية المنظومة القديمة الممثلة في السبسي والنداء والسماح لنهضة الثورة ونهضة التضحيات بتزكية المنتوج التجمعي عبر الدخول معه بشكل مجحف في حكومة بلا حقائب وزارية تُذكر وببعض كتاب دولة، وبنائب يتيم لرئيس البرلمان يحوطه الرؤساء الثلاثة "باردو والقصبة وقرطاج".
بزر بسيطة يمكننا العودة الى الارشيف، مازالت محركات البحث تحتفظ بردود فعل معسكر الثورة الذي خون الغنوشي بتهمة التحالف مع التجمع، نفس المحركات مازالت تعج بمواقف التخوين التي حمّلت السبسي مسؤولية إنقاذ النهضة من مصير الإخوان، وبالتالي إنقاذ سبعطاش ديسمبر من مصير 25 يناير. لقد مرت مرحلة على السبسي انفضت من حوله أغلب شرائح الثورة المضادة، وتحركت جمعيات وشخصيات نسائية لاتهامه بخيانة المليون مراة، حينها كانت الثورة تشيطن رجل العقود التسعة، وكانت تستغرب وتمعن في الاستغراب، كيف وصل الغنوشي الى هذا المستوى، لماذا باع تاريخه وتاريخ حركته وارتضى التحالف مع وزير داخلية بورقيبة ورئيس برلمان بن علي وصاحب صباط الظلام!
كانت الثورة المضادة تنهش النداء والثورة تنهش النهضة، قاد محسن مرزوقي حركة تمرد واسعة على السبسي، وأسس مشروعه على شعار استعادة الوعد الذي خانه الباجي، وشرع في تضميد جراح المليون مرا، ووعد بإنهاء مهزلة التحالف مع إخوان تونس مع المشروع الديني واسماء اخرى استعملها في ثلب النهضة، فيما قاد محمد عبو وياسين العياري وشخصيات اخرى امواج الغضب التي خونت الغنوشي والنهضة، وخسرت الحركة الكثير من حزامها الثوري لصالح التيار والحراك ولصالح العزوف والإحباط والانصراف،
دخلت النهضة في حالة نزيف منذ شرعت في التنازل عن السلطة بشكل تدريجي، من حمادي الجبالي الى العريض، ثم اشتد النزيف بعد إعلان التوافق واستشرى حين قبلت النهضة بفتات السلطة، عندما انطلق قطار التنازلات اشتد اللوم على زعيم النهضة ، فأطلق تصريحه المعروف"إذا خسرنا السلطة سنعود إليها لكن إذا خسرنا الحرية فقد خسرنا كل شيء".
وصل الأمر بالكثير من قواعد النهضة الى الخجل من حركتهم، كانت جرعة التوافق مع منظومة يغلب عليها الطابع التجمعي صعبة وقاسية وغير مفهومة وغير مهضومة، اعتنق الغنوشي سياسية الإعراض عن الاحتجاجات المتعاظمة من داخل حزبه بل من داخل الصف الأول، ومضى في نحت علاقة مثيرة تلوح أقرب الى الشذوذ السياسي منها الى الواقعية! فمن اين امتلك زعيم النهضة كل تلك الجرأة ليمضي في خيارات مصادمة لقناعات الصف النهضاوي خاصة والصف الثوري عامة؟
قبل الاجابة علينا ان نستذكر واقعة تجميد حزب القطب داخل الجبهة الشعبية فقط لان منسق الحزب رياض بن فضل التقى على العريض المناضل والوزير السابق ورئيس الحكومة الاسبق علينا ايضا ان نذكر كيف تفكك نداء تونس رغم انه يملك كل السلطة بقصورها السيادية الكبرى، لكن النهضة الضحية الاولى في تونس لم تتفكك رغم انها تحالفت او توافقت مع جلادها الاول في تونس! وذلك بالتأكيد لا يعود الى عبقرية الغنوشي وقدراته السحرية على لحم الجسم وتمسيكه، لقد كانت قيادات النهضة وصناع القرار فيها على قدر كبير من الوعي، كانت ثقافة الاختلاف عندهم راقية الى درجة قبلوا معها بابتلاع حربوشة النداء كما ابتلع النداء حربوشة النهضة، زلزل السّخط أركان الحزب، غادرت الكثير من القواعد، لكن النواة الصلبة ظلت تبتلع مرارة التوافق المجحف وتغالب شهوة الانقسام. حين قام بتنفيذ عملية استفزازية غير تقليدية كان الغنوشي يدرك انه يقود حركة تحسن تتماسك حين تكون أقدامها على بعد دقيقة واحدة من حقل المتفجرات.
حين غادرت الروح الى ربها، وتجهز جثمان الرئيس، بدأت وفود الثورة المضادة تصل تباعا الى باحة القصر وتاخد اماكنها حول الطريق المرسوم للجنازة، توقفت المليون مرا عن شتم الرجل الذي خانهم وتوقفت رموز الثورة المضادة عن لمزه وانهمرت الدموع.. عاد للباجي بريقه بعد موته كما عاد بريق بورقيبة بعد هروب بن علي!!! حين كان كل الذين انشقوا على الباجي يتزاحمون على الصوف الاولى ، كان الغنوشي مغمورا في وسط الحضور تتحاشاه نفس الكاميرا التي اثثت مهرجان انشقاق مرزوق ومشروعه، كل الثورة المضادة التي انصرفت من حول السبسي وقالت أن الرئيس خان الوطن، هي الآن تسير خلف جنازة الرئيس وتروج في الإعلام ان الرئيس صان الوطن..
خلف الجنازة وخلف شاشات الحاسوب وخلف التلفاز وخلف الجرائد وخلف نوافذ المنازل الكثير من أبناء وأنصار الثورة تابعوا جنازة الرئيس في خشوع، كما تابعوا ثناء العالم على تجربة تونسية فريدة، وتابعوا حسرة الشعوب العربية تجاربها وإعجابها اللامحدود بما يحدث في بلادنا، تابعوا كل ذلك، لكن أحدهم لم يسأل عن الرجل الذي لعنوه ذات 2014-2015 لانه قام بتزكية السبسي واستأنس فيه القدرة على إدارة المرحلة.
هل كان الغنوشي يدرك أن السبسي اقتنع بالانتقال الديمقراطي وسيعمل على تثبيته بصدق؟ أم تراه كان يراهن على استدراجه الى الدمقْرطة وإغرائه بحسن الخاتمة السياسية، أم أنه وأمام اكتساح النداء وفوز الباجي بالرئاسة، قرر أن يلعب ورقة التوافق كرهان كمحاولة اخيرة لإنقاذ تونس من المصرنة؟
لا احد يملك الحقيقة بالتحديد، وقد يمضي العمر ويذهب الغنوشي إلى مرقده الأخير ولا يجيب عن هذا السؤال، لكن وفي كل الأحوال، يبدو ان التوافق الذي لعنته الثورة المضادة كما لعنته الثورة، لم يكن نبتة خبيثة كما اعتقد الكل او الجل.، ويبدو ان خلاصة لقاء باريس ولقاءات تونس والتوافق دارت تحت شعار، افسح لك طريق السلطة، وتغلق انت طريق تونس أمام الضبع الإماراتي وغرفته الخبيثة.