ربما ربح قيس سعيد جولة تكتيكية في معركته ضد الدستور الحالي (نعم، يتضح أن معركته الأصلية ضد الدستور، وأن الباقي معارك تفصيلية)، ولكن أفق أي تغيير عميق في المنظومة السياسية مغلقة أمامه بحكم عدة إعتبارات. هناك حل واحد لتغيير الأمور بعمق، وهو إلغاء الدستور أو عدد من فصوله، وهذا غير متاح له في الحالات العادية، حتى لو وقع حل البرلمان، أو ذهب في تفعيل فصل الخطر الداهم.
يعتقد رئيس الجمهورية أنه يحتاج إلى إعطاء إشارات للفئات التي لم تدعمه في الرئاسيات، وتحقيق تغيير في خارطة مسانديه، وهو يستهدف بذلك خصوصا النخب التي يكفيها أن يعلن قيس سعيد عداءه للإسلاميين حتى تقف إلى جانبه وتغض الطرف عن تأويلاته غير المحايدة لفصول الدستور الخلافية.
في كل الحالات، بتكليفه شخصية وفية له لا ماضي سياسي لها، وبالتوجه نحو حكومة تقصي الأحزاب، في ظرف بالغ الحساسية، فإن الرئيس يواصل معركة تأويل الدستور في سياق عام يجعل من المعارك حول الصلاحيات وحتى حول الدستور أمرا تفصيليا جدا. الأسئلة الحقيقية في المرحلة التي ستفتح بعد أسابيع هي: ماهي قدرة الحكومة على مواجهة تداعيات نسبة نمو سلبية قد تبلغ 12 بالمائة؟ ماهي قدرتها على اقتراح قوانين في مواضيع خلافية، وعلى تمرير الميزانية، وعلى أي تحرك داخل المجلس؟ إلخ إلخ
هذه الأسئلة لن تطرح في الحقيقة على الحكومة، بل على رئيس الجمهورية رأسا. ما يعني، رياضيا، تدهورا متواصلا لا يمكن تلافيه في شعبيته قبل أكثر من أربع سنوات من الإنتخابات القادمة. في المقابل، سيسلك البرلمان سياسة "القِسم الميّت" التي يعرفها المربّون، بما فيهم الرئيس، جيدا، وسيصعب عليه تمرير الدروس التي يريد تمريرها.
لكن الخسارة الكبرى هي تلك التي أصابت بوضوح الدور التحكيمي لمؤسسة الرئاسة. في نظام كالذي أرساه الدستور الحالي، يلعب الرئيس دورا تحكيميا بالأساس يجعله فعليا فوق الأحزاب، ولكن ليس ضدها. ما نراه بوضوح هو أن المعركة التي يخوضها الرئيس ضد الأحزاب، لن يكون من الممكن التغطية عليها بالمواجهة مع النهضة وحلفائها.
لقد بدأت الأحزاب الأخرى (حتى التي كانت في حكومة الرئيس الأولى، وبالخصوص تلك التي كانت أيضا في مواجهة النهضة) تستشعر خطورة أطروحات الرئيس وسلوكه إزاءها وإزاء البرلمان والدستور. بعض الكتل الإنتهازية في المجلس التي صفقت لحكومة الكفاءات لن يكون بمقدورها عرقلة التوجه العام داخل البرلمان، وهو نشوء جبهة موضوعية ضد الرئيس ستتغذى من ضيق أفق الحكومة القادمة ومحدودية قدرتها على مواجهة تداعيات الأزمة المتصاعدة. سيكون الرئيس، ببساطة، في عين العاصفة!