حديث الصحافيين فيما بينهم ممتع حقا لأن الكثير مما يخوضون فيه يظل في الغالب أجرأ مما يقولونه علنا في مقالاتهم، إن كانوا من كتبتها، أو في مداخلاتهم الإذاعية أو التلفزيونية، إن كانوا من أهل الميكرفون أو الكاميرا.
لم أزر تونس منذ ثلاث سنوات ونصف، وهو ما لم أفعله قط منذ أن غادرتها مطلع 1995، لذا بت أحرص ما يكون على لقاء زملائي الصحافيين القادمين للتو منها، سواء من الذين سيعودون إليها بعد أيام أو من المقيمين أصلا خارج الوطن. أسارع إلى الالتقاء بهؤلاء في دردشة كلها شوق لمعرفة الأجواء السائدة في البلاد لأن انطباعاتهم وملاحظاتهم قد لا نجدها بالضرورة بنفس الجرأة والوضوح في أغلب ما ينشرون أو يقولون.
يقول لي آخر العائدين من تونس، بعد أن قضى هناك أربعة أسابيع، إنه لم يقف على شيء أوضح من ثلاثة استنتاجات: أوّلها أن المعيشة وأعباءها تزداد ثقلا على الناس حتى تكاد تقول إن الطبقة الوسطى، عماد البلاد واستقرارها، تسير بسرعة فائقة نحو ضنك عيش لم تألفه من قبل أبدا، قد تكون له يد في انحدار أخلاق المجتمع وقيمه، ثانيها أن هناك كرها شعبيا واسعا لكل الطبقة السياسية التي حكمت تونس في العشرية الماضية وبالأساس حركة «النهضة» وزعيمها راشد الغنوشي، وثالثها أن قطاعات واسعة من الشعب، إما معجبة بسياسة الرئيس قيس سعيّد أو على الأقل ما زالت تلتمس له الأعذار في عجزه عن تحقيق أي إنجاز بعد عامين من استفراده الكامل بالسلطة منذ انقلابه على الدستور في يوليو/ تموز 2021، وأن من بين هؤلاء أطباء ومحامين وأساتذة يكاد يتبنون بالكامل ذلك الخطاب الشعبوي والإقصائي لقيس سعيّد.
ويقول لي آخر إن أعظم «إنجاز» تحقق في تونس في السنوات العشر الماضية هو ما قام به الإعلام المحلّي من شيطنة ممنهجة للتجربة الديمقراطية، وكل من جاءت به، حتى «أثمر» ذلك في النهاية ما نشاهده اليوم: كثيرون لا يكتفون حاليا بمقت هؤلاء، بل يفرحون كذلك بسجنهم وقد يتمنون حتى تصفيتهم، وذلك في موجة كراهية بغيضة لم يسبق للبلاد أن عرفتها بمثل هذه الحدة التي قسّمت البلاد كما لم يحدث من قبل أبدا.
هذه الأجواء الخانقة، وحتى المجنونة، هي التي جعلت المعارضة لا تلقى ذلك التأييد الشعبي المطلوب لوقف المسار الحالي الذي يقوده سعيّد دون أي رؤية مستقبلية واعدة سياسيا أو تنمويا، وهي ذات الأجواء التي يقول لي صحافي آخر مقيم في الخارج إنه قرر في ضوء إدراكه لمدى اتساع هذه الظاهرة ألا يخوض مع عائلته أو أصدقائه، خلال إجازته، في أي شأن سياسي لغياب المنطق السليم والحد الأدنى من الإنصاف أو الواقعية في الحكم على الأمور.
ويضيف آخر همسا، وكأنه يذيع سرا خطيرا، أن ما توصّل إليه في النهاية هو أن «ما حصل في تونس منذ عامين لا يعدو أن يكون بكل بساطة، ودون لف أو دوران، انقلابا عسكريا لكنه انقلاب من نوع خاص، يجعل تونس «متميزة» دائما في ثورتها كما في انقلابها» الذي هو، حسب محدثي، «انقلاب عسكري بواجهة مدنية لا أكثر ولا أقل» وأن على كل من تساءل في الداخل أو الخارج عن سر هذه القوة التي يتمتع بها سعيّد، حتى يفعل كل ما فعل دون تردد أو خوف، أن يقتنع الآن بهذا التفسير. ويشرح صاحبي أكثر فيقول إن سر نجاح هذا الانقلاب يعود أيضا إلى وقوف ما يسمى «الدولة العميقة» من مراكز القوى المالية والإدارية وكل أعداء الديمقراطية، دون أن نغفل وقوف قوى إقليمية، عربية وأجنبية في احتضان ورعاية هذا المسار الانقلابي، إن لم تكن هي من أوعزت به وخططت له أصلا.
أما أكثر ما يحز في النفس هو أن المسار الحالي في تونس، والذي أعاد حنين البعض إلى الاستبداد، وأظهر طبقة من الانتهازيين والمنافقين لا عقل لها، هو مسار بلا أفق ولا إنجازات، إلى درجة قول أحدهم إن البلاد كانت في العهود السابقة، مع الراحلين بورقيبة وبن علي، في استبداد لكن مع توفر الخبز والسكر والقهوة والدواء فباتت اليوم في استبداد بدونها جميعا. وكما قال السياسي التونسي المعارض محمد الحامدي فإنه لا وجود لأي مبرر مقنع للاستبداد، ومع ذلك فإن أفضل ما يمكن أن يساق ضمن هذا التبرير، كما قال، هو الإنجاز ولكننا في الحالة التونسية أمام استبداد بلا أدنى إنجاز على الإطلاق، اقتصاديا كان أو اجتماعيا.
ويظل أقسى وأمر هو تلك الرسالة النصيّة التي بعثها لي صديق صحافي عاش طوال حياته المهنية في الخارج قبل أن يعود إلى البلاد، ثم يغادرها إلى المهجر من جديد بعد عجزه عن تحمّل ما يجري، وفيها يقول «من نكد الدهر أن يكون تقاعدي في بلد كهذا، مع شعب كهذا، مع رئيس كهذا».
الله المستعان.