في ذات ليلة من أيامنا في الجامعة لم أعد أذكر التاريخ تحديدا، كنت عائدا من العاصمة في اتجاه المبيت الجامعي بمنوبة، كانت الحافلة شبه فارغة، أظنّها رحلتها الأخيرة، اقترب منّي رفيق، القيادي الأول في فصيل طلابي يساري، بادرني بالتحية قائلا "السلام عليكم" رددت التحية ولكن بحكم توتر العلاقة بيننا بشكل مستمر ونظرا لأجواء الصراع بين الإسلاميين واليساريين، رأيت فيها استفزازا ثم أردف بالسؤال عن الحال والأحوال وهو أمر نادر الحصول فقلت بيني وبين نفسي، يبدو أن الرفيق تحت تأثير ما احتساه من خمر وذلك من تأثير الأحكام المسبقة عن بعضنا البعض.
وصلنا إلى المبيت فترجلنا وكنت أحسب أن أجوبتي السريعة عن أسئلة الرفيق الكثيرة ستنهي هذه المحادثة الثقيلة ففاجأني بالسؤال هل تعشيت؟ قلت فات من الليل نصفه وتسألني إذا كنت قد تعشيت؟ قال لا بأس نمر إلى الدكان نشتري ما يؤكل، مررنا إلى الدكان فوجدنا صاحبه على وشك المغادرة، اشترينا بعض الأشياء وكنت أظن أن الوقت قد حان ليذهب كل منّا لحال سبيله ولكن يبدو أن رفيقي له برنامج آخر فسألني إذا كان بالإمكان أن نصعد سوية إلى غرفتي، فقلت رفيق في غرفتي!!!
دخلنا الغرفة، خيّم صمت قطعه صاحبي قائلا لقد بلغ مني الجوع مبلغا لم يعد بإمكاني تحمله، شاركته الأكل وتبادلنا أحاديثا عامة حول الناسوت واللّاهوت، كان كل منّا أحرص من الآخر على عدم الخوض في الوضع الجامعي وفي المسائل السياسية عامة. بعد الأكل، طلب مني رفيقي تشغيل المسجل، يريد أن يستمع لتلاوة لبضع آيات من القرآن الكريم، ازداد عجبي... بدأ في الاستماع للقرآن الكريم وبدأت دموعه تنهمر.
وقتها علمت أن الأمر جد وأنّ صاحبي محمد العربي الزاير يمر بنقلة نوعية في حياته، حدثني رحمة الله عليه عن المراجعات التي قام بها وعن عودة الإيمان المفقود وعن التحديات التي سيواجهها وعن الأخطار المحتملة، تواصل حديثنا حتى آذان الفجر.
في الضحى، دعونا إلى اجتماع عام وحضر معنا على المنصة الأخ الرفيق محمد العربي الزاير وأمام جمع غفير من الطلبة المتعجبين من المشهد، أعلنا انضمام الأخ العربي للاتجاه الإسلامي وأنّ كل ضرر يلحق به يلحق بالاتجاه الإسلامي. كانت الرسالة واضحة وجليّة. جاءني بعدها جمع من الطلبة الإسلاميين يحذر من المؤامرة، يهدد ويتوعد.
تفاصيل أخرى تتعلق بتعقد العلاقة مع الاتجاه في تلك المرحلة، يعود الفضل للأخوين العجمي الوريمي وعبدالعزيز التميمي، فجهدهما لا ينسى في تخفيف آثارها، المجال هنا لا يسمح للتبسط فيها. انقطعت الصلة بالأخ العربي بحكم تطور الأوضاع في البلاد واضطرارنا لمغادرتها.
تجددت العلاقة بالأخ العربي بعد الثورة وكنت أتابع أخباره عن طريق الأخ العجمي الوريمي. زرته في مرضه رفقة الأخ عبدالعزيز التميمي، كان يصر على إكرامنا ويتحامل على نفسه، وجدته رحمة الله عليه هزيل الجسم، صافي الذهن، مرتاح النفس، ذاكرة قوية، يحدثك عن المفكرين ويسرد أقوالهم كأنّه قرأها بالأمس القريب.
في زحمة الأحداث يرحل عنّا أناس جديرون بكل الاحترام دون أن نستفيد من علمهم وتجربتهم بالشكل المطلوب. رحم الله أخانا العربي، تحية احترام وتقدير لصاحبة دربه الصابرة المصابرة و لأبنائه الأفاضل وبناته الفضليات وتحية خالصة للأخوين العجمي الوريمي وعبدالعزيز التميمي على ما بذلا في حق أخينا الراحل.