في محاورة عدنان منصر
أبدع برنار نُويل في اختراعه لمصطلح (sensure) الذي يعني "الحرمان من المعنى" في مقابل (censure) التي تعني "الحرمان من الكلام". ويذهب إلى أن "قوة" الحضارة الرأسمالية الحالية في قدرتها – عبر ترسانة ضخمة من النصوص القانونية وآليات إغراق المواطن بالصور ومن فتح مجالات التعبير أمامه لإبداء رأيه ودفعه دفعًا إلى القول – على الاستحواذ على المعنى، والالتفاف على الفعل الأخلاقي الحقيقي.
ذكّرني نص سي عدنان بكتابات نُويل الإبداعية وخاصة كتابيه (L’outrage aux mots) و (La Privation de sens) والتيار الذي ينتمي إليه.
بلى، لا يكفي إعلاء الصوت للحديث عن الكرامة لتختفي "الإهانة زمن الذلّقراطية"، سواء كان ذلك الصوت حريصا على الكرامة أم عدوّا لها. الصخب الذي يصمّ الآذان منذ 2011 طلبا للكرامة وفِعلاً باسمها، إذا ما عرضتَه على سُلّم "المعنى" وواقع التقدّم العملي في مسيرة تحقيق تلك الكرامة، لعرفتَ أن معركة اللائحة المذكورة، "وخبْطَ" الرئيس في فرنسا قولا مشحونا أو رمزًا مشروخا، تفاصيل "رديئة" فيما سمّاه منصر بــملف "النخوة القومية" أو "الوطنية"، وهي تسميةٌ – وهمٌ (ويمكن أن أوغل في التجريح فأقول إنها من ألاعيب السَحَرَة) للانحراف بالكرامة الإنسانية ... الفردية (قبل الجماعية) عن أصلها التكويني لحشرها في "مكارم الأخلاق"!!!
أصبحت الكرامة – على مدى تاريخنا الطويل – من "الفضل والزيادة"، من الفضائل اللاحقة التي يُمَنُّ بها على الأفراد وليست حقًا حقيقا بهم، ولا جُرمَ في حبسها عنهم. أنظروا المعاجم والتفاسير وكتب الأخلاق والرقائق ومرايا الأمراء ... وستفهمون. وتُصدّعُ رؤوسُنا بــ ﴿وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِیۤ ءَادَمَ﴾. ولم تكن الصرخة التي أطلقها مالك بن نبي بخصوص "القابلية للاستعمار"، وعلي شريعتي حول "الاستحمار" إلا جزءا من معركة المعنى الطويلة بهذا الخصوص.
المعذرة سي عدنان، ولكن مفهوم "النخوة الوطنية" الذي تتحدث عنه هو نفسه الوجه الآخر لتلك العُقدة من الفرنسية، والتي وصّفتها بشكل دقيق ورسمت بعض معالمها النخبوية. النخوة الوطنية هي كرامتنا الخَلْقية التي رحّلناها بعيدا عنا إلى القوانين والعلاقات الدولية (الإعلان العالمي لحقوق الانسان على سبيل المثال)، لنستدعيها متى تعرضت مصالحنا وامتيازاتنا كنخبٍ، سواء منها المادية أو الرمزية، لبعض الخطر، وننساها إذا استكان لنا الناس وخضعوا وسلّموا لنا في إنتاج وتوزيع معناهم...
إن ما أتاه قيس سعيد في حضرة ماكرون، وما أتاه الرباعي الراعي للحوار الوطني أمام هولاند، وما أتاه بعض التونسيين الذين دعاهم ماكرون إلى العشاء الذي أقامه على شرف سعيّد، وما أتاه الذين عارضوا لائحة الاعتذار في البرلمان، كلّه من نفس الجنس الذي أتاه خير الدين التونسي (المصلح) في زياراته إلى فرنسا (رسمية أو خاصة) والممالك الأوروبية التي فاقت العشرة (أنظر في صداقاته الخاصة التي كان من نتيجتها بيع هنشير النفيضة)، وما أتاه بن عياد وخزندار ونسيم شمامة الذين مكّنتهم فرنسا من جنسيتها للالتجاء السريع إليها إذا ما أحسّوا بخطر "النخوة الوطنية" على وجودهم، وما أتاه أحمد باي في زيارته إلى فرنسا .... الخ. وغير هؤلاء كُثْرٌ.
وبالعَوْد إلى برنار نويل، فإني أعتقد أننا نواصل ترحيل معركة الكرامة الحقيقية إلى "هلامية" النخوة القومية هو تماما ما تفعله "دكتاتورية الديموقراطية" (بتعبير نويل) من تعويم للمعنى، وتحريف عن الفعل.
طبعا لستُ في وارد الموقف مما أتاه سعيّد أو غيره، أنا فقط أدعو إلى الجلوس بهدوء لتفكيك "ظاهرة العُقدة الفرنسية" كما سمّاها نص عدنان منصر، والاشتغال على المعنى العميق للكرامة (أنظر على سبيل المثال أعمال المرحوم مهدي المنجرة) لمعرفة استرجاعها أو العمل على بنائها وصيانتها.
كان الرئيس منصف المرزوقي ذكيا (في معركة المعنى) عندما رفع شعار "لا نهضة لشعب من خارج لغته"، وقد شرّفني بأن خُضتُ معه غمار تجربة استرتيجية بخصوص وضع بعض القواعد الراسخة في معركة الكرامة: المحراب العالمي للغة العربية. وبعد الاشتغال والتجريب الذي دام حوالي سنة، طلب مني المرزوقي غلق الملف … بلا كيف؟؟؟ والاشتغال على موضوع آخر. رفضتُ وغادرتُ. ولم نعلم يومًا مصير ذلك المشروع.
معركة الكرامة ليست معركة القَوْل، بل هي معركة معنًى. وفي وضع ديموقراطي (أو شبه) هي معركة، أحد أعدائك الألدّاء فيها: السَحَرَة.