في خضم الجدل السياسي الحالي حول تغيير الدستور ونظام الحكم، تتبادر بعض الأفكار إلى الذهن من خارج العقيدة السائدة في النظر إلى المنظومات السياسية والاجتماعية. سأحاول طرح هذه الأفكار على قارعة الطريق، كمن يفكر بصوت عال، لعلها تلقى بعض التفاعل لدى عدد من الأصدقاء.
يوجد عبارة سياسية كثيراً ما نسمعها، خاصة لدى من يصفون أنفسهم بالعائلة الديمقراطية السياسية، وهي "استرجاع دولة الرعاية الاجتماعية". في الواقع، ذهني يواجه مشكلتين في هضم هذه العبارة:
المشكلة الأولى، هي وجد فعلاً في تونس، خلال مرحلة تاريخية حديثة، دولة رعاية اجتماعية؟ هل أنه الدولة الوطنية التونسية، في مرحلة من مراحل تطورها، كانت دولة رعاية اجتماعية؟
سؤال يستحق الطرح، فعلاً. لكن، للأسف، أدبيات العلوم الاجتماعية والتاريخية المتوفرة بين أيدينا لا تسعفنا كثيرا في الإجابة عنه. أغلب من يقولون بإستعادة دولة الرعاية في تونس، يعتبرون الفترة من أواسط الثمانينات إلى أواخر التسعينات نموذجهم في ذلك.
ففي نظرهم، هذه الفترة تميزت بتمتين الطبقات الوسطى، الصعود الاجتماعي عبر التعليم، الولوج إلى السكن، توسع الخدمات العمومية الأساسية، تمأسس منظومة الصحة العمومية، وما إلى ذلك. في المقابل، يعتبرون أن هذا النموذج فيه لوثة يجب استئصالها، وهي لوثة التسلطية السياسية. لذلك، يكفي استعادة ذات النموذج الاجتماعي لتلك الفترة، مع تطعيمه بجرعة من الديمقراطية، حتى نصل إلى التوازن الاجتماعي الديمقراطي المنشود.
من بين الكتابات النقدية القليلة لفترة التسعينات في تونس، هو كتاب بياتريس هيبو "قوة الخضوع". يقدم الكتاب تحليلا رهيفا للإقتصاد السياسي للتسلطية زمن بن علي، مستنتجا أنها كانت تستند إلى عقد اجتماعي قوامه مقايضة الاستقرار الاجتماعي بالحرية السياسية. ومن الركائز التي كانت تغذي هذا العقد الاجتماعي، هو توليد رغبة الصعود إلى الطبقات الوسطى لدى التونسيين.
في المقابل، كانت التسلطية تعتمد على إواليات مخصوصة في إشباع هذه الرغبة: أهمها تعميم الإستهلاك عبر القروض الصغرى. غير أن الكتاب يبرز ضرورة التسلطية وأدواتها في تلبية هذه الرغبة في الصعود والاستقرار الاجتماعي، من بينها: القروض غير المستخلصة، التهريب، الابتزاز الإقتصادي، التلاعب بالصفقات، تدجين الحركة النقابية والعمالية، وغير ذلك.
ما يحصل من قراءة فصول هذا الكتاب، هو نتيجة مفادها: لم يكن تأسيس ما يعتبر نموذجا للرعاية الاجتماعية ممكنا دون التسلطية السياسية. بل هو، بالأساس، حلقة من حلقات الاقتصاد السياسي للتسلطية. أي أنّ ما يعتبر نموذج رعاية اجتماعية هو، في المحصلة، نموذج ريع اجتماعي تسلطي. في المقابل، يحتاج هذا الطرح إلى مزيد التعميق والتحصيف. وهو ما نتمنى من علماء الاجتماع والسياسية والمؤرخين أن يهتموا به. أي، تحديداً، الدراسة النقديّة لتلك الفترة المحورية المستغلقة من تاريخ البلاد، فترة التسعينات (عوض أن يلتهوا بالهرج والمرج السياسي على الفايسبوك، فليتركوه لنا نحن عوام هذا المجتمع).
المشكلة الثانية: فرضاً لو سلمنا بوجود دولة رعاية اجتماعية في فترة ما من تاريخ الدولة الوطنية في تونس، فهل يمكن، فعلاً، استرجاعها؟ ما مدى وجاهة هذا الطرح الاسترجاعي؟ وهل أنّ الأطروحات الاسترجاعية قد أثبتت إمكانها يوما ما في التاريخ؟ لماذا التفكير في استرجاع نموذج ناجز، عوض الاتجاه إلى إبتداع نموذج قادم؟ ألا ينم ذلك عن عمق أزمة تصور المستقبل التي يعاني منها فكرنا السياسي التحرري؟
في كتاب الطاهر حداد حول تكون الحركة العمالية في تونس، تحديداً في حديثه عن تجربة نقابة عموم العملة التونسيين، يذكر أنّ محمد علي الحامي كان يحمل رؤية شمولية للنضال الاجتماعي التحرري تتجاوز حدود العمل النقابي المباشر. من ذلك، يشير الحداد إلى أن الحامي كان يفكر في هيكلة الحركة العمالية على طراز تضامني إستقلالي: حركة لها مؤسساتها الإنتاجيّة، ومدارسها، ومستشفياتها، ومؤسّساتها الاجتماعيّة المستقلّة، يديرها العمال بشكل تضامني. وينوه الحداد إلى أن مشروع الحامي كان متقدما على واقع البلاد وحركتها العمالية المتخلف آنذاك، وهو ما أدى إلى وأده في المهد.
كيف تمكن الحامي، في عشرينات القرن الماضي، من التفكير في نموذج تضامني للتحرر الاجتماعي من خارج الدولة، بينما انغلقت آفاق تفكيرنا اليوم في التحرر الاجتماعي داخل علبة الدولة؟ ألا يكفي قرن كامل من تجارب التحرر الاجتماعي عبر الدولة، التي انقلبت في النهاية إلى تجارب تسلطية وريعية على امتداد جنوب العالم، بالدفع نحو ضرورة التفكير في التحرر الاجتماعي من خارجها؟
مجرد أسئلة وتخمينات، لا تدعي علماً أو فلسفة.