ضرب التونسيون مثلا بجملين يدوران في مكانهما لجذب ماء من بئرين ولا يتقدمان. ناعورتا ماء توحيان بالحياة لكن الجملين يخرجان من مكانهما غالبا ميتين، جمل برّوطة بالقيروان وجمل الصفصاف بالمرسى.. وأي الجملين اتخذت مثلا فأنت تصف الشيء نفسه. الدوران في المكان الواحد واستيهام التقدم لكن الموت هو النهاية.
جمل السياسة في تونس يدور في مكانه هاهو يكمل دورة أخرى بقيس سعيد. يجمّع فريق الاستئصال من حوله ويستعدان لدورة استئصالية أخرى موجهة ضد الإسلاميين وكل من تسول له نفسه التحالف معهم. أما الديمقراطية والتقدم والتنمية فوهم كبير مثل الماء الذي يتوهم الجملان استخراجه من بئرين نسي الناس أن يحفروهما. النواعير الكاذبة ترحي الهواء باع الأمريكيون القطار للإسلاميين ورتبت فرنسا الوضع التونسي مرة أخرى وأمامنا دورة استئصال طويلة تستغرق جيلا آخر. لقد كسب اليسار التونسي عقدا آخر من الخمور المدعومة وليس لهم من مكسبهم إلا ذلك.
توليف رباعي الحوار المغشوش
أكمل الرئيس استشارته وزعم أن نسبة المشاركة كافية واعتبر النتائج لصالحه وتقدم خطوة أخرى في برنامجه السياسي نحو صياغة دستور جديد وتنظيم استفتاء عليه ثم انتخابات بقانون يصوغه ويحكم إلى ما شاء الله فالرؤساء العرب لا يموتون صغارا.
من أجل ذلك جمع الرئيس من حوله الرباعي الذي أشرف على حوار 2013.. لا داعي للتذكير هنا بأن الرئيس كان وصف ذلك الحوار بالحوار المغشوش واعتبر نتائجه حينها تحايلا على الشعب. لكنه وقد ملك زمام أمره عاد للجهات نفسها وأخضعها لحواره الجديد. تحت سقف الاستشارة وقد هرولت المنظمات للحوار مع تمنع شبهه كثيرون بتمنع البغايا لرفع الأجر.
المشهد يتجه إلى نهاية واضحة. نظام الرئيس سيقوم على ركائز اليسار الاستئصالي من ناحية (ممثلين في النقابة ورابطة حقوق الإنسان) وركائز فلول حزب التجمع أو حزب رأس المال الفاسد ممثلين في عميد المحامين (التجمعي) ونقابة الأعراف أو جماعة السياحة واستيراد المزابل المسمومة وهو وصف دقيق للبرجوازية التونسية.
وتعمل هذه الركائز مجتمعة تحت سقف الاستشارة المسخرة على أمرين مهمين استعادة نظام مكاسبها الذي زلزلته الثورة وظلت الديمقراطية مسلطة عليه ومنع كل تهديد قادم يتكلم باسم الثورة أو الحرية أو الديمقراطية. ما الثمن الذي سيدفع في ذلك؟ ويبدو الإسلاميون في هذا المشهد كتهديد حقيقي لنظام المكاسب ولذلك فإن الاتفاق الذي يجري الآن هو إقصاء هذا الحزب ومن تسول له نفسه التحالف معه. هل يمكن العودة إلى حرب الاستئصال؟
الاستئصاليون استولوا على الانقلاب
أين ذهبت جملنا الرنانة عن الانقلاب الذي يترنح؟ لقد كنا نرى الرئيس المنقلب وفريقه المضيق الذي استقال أغلبه وكثير من الغوغاء التي ناصرته ثم هربت من مواجهة عارها في الشارع. ولم ننتبه (وها نحن ننتبه بكثير من التأخير) أن الاستئصاليين قد استولوا على الانقلاب رغم الزهو الغبي لصاحب الاستشارة. الذي لا يزال يظن أنه يحكم. كنا نبهنا في مقالات سابقة إلى أن الذين صوتوا للقروي المافيوزي (2019) قد انتقلوا خلف الرئيس منذ أول صدام بين الرئيس والنهضة بينما انقلب الذين صوتوا لقيس ضده.
لم نول الأمر أهمية كبيرة. فقد كانت الضجة التي تحدثها الفاشية في البرلمان وفي الشارع تجذب انتباهنا بعيدا عن العمل الدؤوب الذي كان يهدف إلى استعادة السلطة من قيس إلى ملاكها (الأصليين) وقد أنفقنا وقتا كثيرا في السخرية من الرئيس بينما كان لوبي المال المالك الحصري لليسار الاستئصالي المزروع في الإعلام يتسرب قريبا منه ويدفعه إلى الانقلاب وقد فعل.
لقد أنجز الرئيس المهمة المطلوبة وهي تعطيل الدستور المخيف وإغلاق البرلمان ثم حله ثم "مرمطة" النواب المتمسكين به ثم فرض دستور جديد (يكتبه رجال بن علي في هذه اللحظة). نهاية الرئيس ستكون بنهاية كتابة دستوره. حتى ذلك الحين سيسمح له بالحلم أن يكون رئيسا للدولة القيسية. التهديد الباقي هو حزب النهضة وأنصاره وحلفاؤه وفيهم لفيف من الديمقراطيين المخيفين. ليس من السهل ضربهم بطريقة بن علي الحاسمة، ولكن جرهم إلى سباق بين المحاكم والقضايا الصغرى كفيل بشغلهم عن تعطيل المسار. قد تكون آخر ضربة مطلوبة من الرئيس للمسار الديمقراطي هو وضع قانون جديد للأحزاب ينظف الساحة من كل الأسماء الموجودة الآن. أي الحزب الوحيد القائم فعلا حزب النهضة.
لقد ترنح المنقلب فعلا وسيسقط لكن ليس بين يدي الثورة والديمقراطية، بل بين أيدي فلول نظام بن علي الكامنين في مفاصل الدولة. وأهمها الإعلام. وماذا جرى لمكاسب الثورة ومناخ الحرية؟
تنسيب المكاسب
نتجه حثيثا إلى استكمال سنة من الانقلاب وخلالها عاين الجميع أن الانقلاب لم يترك رذيلة في حق الديمقراطية إلا ارتكبها لكن أنصار الحرية والديمقراطية بقوا مترددين ينتظرون أن يسقط الانقلاب من تلقاء نفسه. بعضهم انتظر أو تمنى أن يخرج حزب النهضة وحده لإسقاط الانقلاب وليعيد لهم السلطة من بعده. فئات كثيرة لها لسان طويل في الحديث عن الديمقراطية لكن الانقلاب كشفها. (وهذا مكسبه الأهم).
هل نجزم بعدم تشبع النخبة التونسية بفكرة الحرية وعدم إيمانها بالديمقراطية. قد يكون هناك تجن على البعض لكن النخب التي رأت دستورها يأكله الحمار وبرلمانها المنتخب يفكك مثل فريق كرة هاو ونوابهم يقفون أمام المحاكم ويهددون بالمشانق ولم تنزل الشارع فتوقف المهزلة أعتقد أنها أقل من الحرية والديمقراطية وأن حساباتها الفردية والفئوية غالبة عليها.
ننسب إذن ما بالغنا في وصفه سابقا بنهاية الانقلاب لعلنا نجد الجمل المناسبة لوصف اللحظة التي يتقدم فيها الانقلاب (أعني المتخفين خلفه) نحو فرض معركة استئصال جديدة على شعب يعيش تحت تهديد فقدان المعيشة. الوضع القادم هو نسخة من الوضع السابق ستحل فرنسا مشكلة الغذاء لأنصارها العائدين إلى السلطة من بوابة الانقلاب. أما الهواء الذي رحته أمريكا للإسلاميين فسأعود إليه في ورقة قادمة إذا غفل عنا "يسار البيرة المدعومة".
جمل الصفصاف مازال يدور مكانه ويستخرج الهواء في دلو مثقوب. الاحتمال الوحيد الذي ينسف قولي هذا هو أن يعسكر أنصار الديمقراطية في الشارع فلا يعودون إلى بيوتهم إلا بإنهاء المنقلب ومن يتخفى خلفه. أرأيت أيها القارئ هذه الجملة تجعل جمل الطاحونة يخرج حيا ويتخذ طريقا مستقيما. وهذا ينقض الحكاية المؤسسة.