في ذلك الصيف البعيد، كنت قد نجحت لتوّي في امتحان الباكالوريا آداب بامتياز وتم توجيهي لدار المعلمين العليا بسوسة، شعبة العربية. وقد قرر والداي أن يحتفلا بهذه المناسبة بما يليق بهذا الحدث الجلل الذي لا يكاد يتكرّر في عائلة الجوادي، التي لم تنجب من العباقرة سواي تقريبا، إذا استثنينا ابن خالي الذي نجح في الباك في المرة الثانية وبملاحظة متوسط ورسب مرتين في الحقوق ليصبح معلما في أحد أرياف ماطر..
"أما الطيب ولدي، نجح من الضربة الأولى، وعطوه زايزة، وبعثوه يقرأ مع التوريست في سوسة" تكرر الوالدة أمام المدعوين، قبل أن تضيف وهي تضغط على الحروف وترسم ابتسامة ماكرة على وجهها لتغيض خالتي حليمة جارتها: "قالولو كان تحب يزّي من القراية، وشد مُتْعمدْ.. آخي نا قلتلّو واش نعملو بيها متعمد، زيد أقرأ توة تولي والي وإلا حاجة ما خير"..
وبعد أن انقضت الأفراح والليالي الملاح، و"طارت السكرة"، قرّرتْ الوالدة دعوتي لإجتماع مضيق من أجل النظر في مستقبلي المهني والعاطفي.. أعدّت شايها الثقيل، وأجلستني إلى جانبها، وكان أبي كعادته يعبث بسبحته ويتابع نشرة الأخبار غير مكترث بما يحصل حوله..
-أسمع الطيب ولدي.. افتتحت الحوار متكلفة الجدّ والإنشغال، نبينا ونصلّو عليه
-ألف ولا يزيه.. ردّدنا باهتمام
-الطيب وليدي إنت كبرت، وتبارك الله خذيت الباك، وانجّم نقول ضمنت مستقبلك.. وافقتها بحركة من رأسي، فواصلت:
-شوف من الأخير، الناجية بنت عمك، هي زادة كبرت، والخطابة بداو يقلّقو في بوها، قلت علاش ما تقدحش عليها، وتعرّس بيها الصيف هذا؟
ولما لم يبدر مني ما يوحي بالموافقة أضافت:
-تعرفها الناجية، ذراع وباع.. تعرف تحلب، وتنحّي العبانة والكليم، وتطبخ في الأعراس، وهي لحمك ودمك.. صحيح موش قارية، أما هاك إنت قاري يزّي!!
حاولت الإستنجاد بالوالد فوجدته يتابع النشرة الجوية غير آبه بشيء. تلمظت وحوقلت، وكدت أشرق في ريقي وبدا علي الإرتباك من أثر المفاجأة، ولكني استجمعت شجاعتي وأجبتها:
-يمة، الناجية طُفْلة باهية، أما نا ما نحبهاش!!
ولو أني أنكرت المعلوم من الدين.. ولو أني ضُبطت بجرم مشهود.. ولو أني أجرمت في حق السماء والأرض، ما كان كل ذلك ليغضب أمي ويخرجها من طورها، كما أغضبتها لفظة "نحبها"..
-يعطك كلَبْ.. أجابتني بعد أن "لعجتني" بكفّ لا "يقرأ ولا يكتب".. فِزّ! لعنة الله عليك ما تحشمش!! واش من حُبّ؟ أخي نحنا طلاين وإلا قُورّا باش نحكو على اللي ما يتسماش؟ تي نا قلتلك خوذها وإلا حبها؟ يا ولد الحرام؟ هذا واش تعلمت في الليسي؟
عند هذا الحدّ أطفأ الوالد التلفاز وسأل الوالدة عما يحصل؟ أجابته وهي تكاد تتميز غيظا:
-سي الطيب ولدك قلّك ما ناخوش الناجية لخاطر ما نحبهاش!!
تكلف الوالد الغضب، ورماني بأقرب شيء قريب منه وهو يصيح ونصف ابتسامة تضيء وجهه:
-واش من حب وليدي؟ تي نا حبّيتْ أمك كي خذيتها؟ ماهو أُبَّيْ فرضْها عليّ فرضان!!
وبقدرة قادرٍ تغيّر اتجاه الريح، واندلعت معركة رهيبة بين الوالد والوالدة، وأُقسم أنّها لم تغفر أبدا للوالد إقراره بأنه تم "فرضها عليه"..