في أواخر الستينات، وفي قريتنا الملقاة هناك بعيدا بين جبال الكاف العالية، لم يكن مباحا لأحد أن يخرج على الخط المرسوم بدقة منذ قرون عديدة: نولد لنساعد والدينا في خدمة الأرض، وعندما نبلغ العشرين يتم تزويجنا بفتاة من بنات أعمامنا أو أخوالنا لنعيد إنتاج نفس الملهاة، ولكن ولعي بالمطالعة واطلاعي على كتب جبران خليل جبران والمنفلوطي، جعلني اكتشف سرا خطيرا "رَهْوَجَني" وعكّر علي صفو حياتي التي كانت تمضي هادئة سلسة مثل جدول ريفي..
اكتشفت أن الذَّكَر يمكن أن ينجذب للأنثى، انجذابا يدفعه إلى إلى هجر النوم، وإلى كثرة التفكير وترك الطعام، وأنّ هذا الانجذاب يسمى: الحبّ!
سارعتُ باطلاع المنصف ولد عمي على هذا الفتح العظيم فزم شفتيه وأخذ نفسا طويلا من سيجارته "الحلُّوزي" الرخيصة وهمس لي بعد أن تأكد من خلو المكان من الفضوليين:
-اسكت يعطك وَهْفْ، الحب هذا موجود كان عند الفرانسيس والطلاين، لخاطر ما يعرفوش ربي! أحْنا هنا ما عندناش ها اللي تحكي عليه!
- واحنا علاش ما نحبوش؟ هو الحب حرام؟ سألته واجما..
- اسمع يا الطيب.. أجابني غاضبا، بدّل الهدرة، تحب يسمع ابيّك وأمك ويعملولنا شاطح باطح؟ قال ذلك ونأى بنفسه بعيدا كأنني قد كفرت!
ولكني لم أستسلم، قرّرت أن أسأل سي محجوب معلم السيزيام رحمه الله، وبعد خروج التلاميذ مساء يوم شتوي من أيام ديسمبر، أعلمته أنني أحتاجه في أمر أكيد.. نظر إليّ باهتمام وأخذني إلى آخر القسم ليسألني بانشغال:
-ماو لابأس جوادي، عندك مشكلة؟
- سيدي، حبّيت نسألك، ما يسالش رجل يحب مرا قبل ما يعرّس بيها كيما في القصة؟
نظر إليّ طويلا رحمه الله، قبل أن يضحك حتى اختلج صدره وانقطع نفسه..
-يا جوادي الحب اللي قريت عليه لا يحصل إلاّ في القصص، في قريتنا هذه، نتزوّج بدون حب، والمهم أن تهتم بدروسك فهو أفضل لك!
شكرته وسارعت بالخروج وبتّ ليلتي أعيد قراءة بعض المقاطع من إحدى أقاصيص جبران، لأكتشف أنّني أنا أيضا "منجذب" لسعاد زميلتي في نفس المقعد في الفصل!
وقرّرت أن أكتب لها رسالة ملتهبة بالمشاعر والأحاسيس، مستعيرا أكثر العبارات من عرائس المروج وروميو وجوليات.. وأذكر أنني طلبت منها أن تقبل بي زوجا بمباركة السماء وبالرغم من الكنيسة ومن أبيها الذي أبطره الغنى والمال، رغم أن أباها لم يكن يملك إلا نعجتين وحمارا!
وحصل الذي حصل.. سلّمُتها الرسالة يدا بيد، قُبَيل دخولنا الفصل في اليوم الموالي، فلم يكن منها إلا أن حملت الرسالة لمعلم الفرنسية الذي أشبعني شتما وضربا، قبل أن يقرأ الرسالة على بقية التلاميذ وهم يردّدون "اللللللللله "!
ولو فعلها وأخبر والدي بالرسالة لكنت الآن تاجر مواشي هناك في قريتي النائية..
ملاحظة: القصة واقعية تماما..