كُتبت قبل الثورة
من منا في أريانة الشمالية لا يعرف عبد الجبار السعايدي؟
لا أحد يمكن أن يدعي أنه لم يقف على بابه ولو مرة في حياته ،ولم يترجّه سرا أو علنا أن يقضي له شأنا من الشؤون أو يتدخل له عند أصحاب الجاه والسلطان ليخلصه من ورطة طارئة أومحنة خانقة؟
والحق أن صاحبنا عبد الجبار مرهوب الجانب من الصغير والكبير، من الرجال والنساء، من أنصار السلطان ومن خصومه وحتى من الأحياء والأموات، بل أن أبا علي المشعوذ يدعي أن الوحوش نفسها تخشاه ويدعي أنه رأى بأم عينيه نمرا مرقطا يقعي أمام بابه يحرسه حين انتشرت المظاهرات أثناء ثورة الخبز.
أما لماذا يحظى عبد الجبار بهذه المكانة؟ فالأمر ليس سرا ولا يحتاج إلى ذكاء خارق لفك رموزه فعبد الجبار السعايدي هو "رجل السلطة" في حيّنا والعين الساهرة التي لا تفوتها صغيرة أو كبيرة وهو الذي يروج لكل شعارات وأفكار الجالسين على سدة الحكم منذ غادر آخر جندي أجنبي البلد وتأسست أول سلطة وطنية إلى يوم الناس هذا.
فعندما كان الحكام يروجون للإشتراكية تعصب صاحبنا لها وأطلق شعار "بقرة واحدة لكل مزارع" وراح ينتقل بين المزارعين المعدمين يدعو لتقاسم مواشيهم و أسمالهم البالية ومتاعهم الرث فيما بينهم من أجل غد أفضل و ظل هو محافظا على بقراته الثلاث ومازالت خالتي مباركة العياري تروي لكل الناس كيف أن صاحبنا أخذ منها ديك دجاجاتها وعنزتين وجديها الذي كانت تُسمنه لعيد الإضحى بدعوى أنها تملك أكثر مما يحق للبروليتاريا أن تملك!! مع أنها متأكدة أن مصير الكل كان معدة عبد الجبار السعايدي وليس المحرومين من أبناء حيها كما أن المسكينة لم تتمكن من نطق الكلمة عدا أن تدرك معناها!!!
وعندما بدأ الحكام يروجون لإقتصاد السوق والإنفتاح لم يجد صاحبنا حرجا في ركوب الموجة فأسس أول شركة تصدير واستيراد في البلد وراح يستورد كل شيء من المايوهات الفرنسية الشيك إلى الخرفان الأسترالية مرورا بالفودكا والأرز البسمتي من تايلاندا!! وسبحان مغير الأحوال فما أسرع ما تضخمت أرصدته في البنوك المحلية والأجنبية وما أسرع ما تحول إلى رمز "للبورجوازية الوطنية".
وعندما قرر السلطان التحالف مع الإخوان لمحاربة الشيوعيين أطلق لحيته وأدخل جسمه الضخم في عباءة فضفاضة على طريقة إخوان مصر كما أدخل رأسه في عمامة سوداء على طريقة آيات الله!! وراح يذكر كل من يلتقيه أن وعد الله حق وأن "الساعة آتية لا ريب فيها" وكان يسلك إلى المسجد طريقا طويلة معقدة تمر به عبر أزقة وحواري حي الغزالة كلها، فيعرف الجميع أن عبد الجبار السعايدي مواظب على الصلاة وأنه "أسلم وحسُن إسلامه"!!
وعندما رأى السلطان أن الإخوان أصبحوا خصما يُهدد سلطته فزج بهم في الزنازين المظلمة ووصمهم بالإرهاب وبأبشع الصفات، ألقى صاحبنا عباءته جانبا وحلق لحيته وترك المسجد والصلاة وراح يبشر بفضائل الإعتدال والوسطية و"التعاون المثمر بين الشمال والجنوب" وأعد قائمة بكل الذين يترددون على مسجد حي الغزالة وسلمها لمن يهمه الأمر ولم يغفل أن يضمنها اسم "الخالة محرزية "التي كانت تقصد المسجد للتسول !!
بعد أوسلو، راح عبد الجبار السعايدي يروج للإعتراف بالدولة العبرية "الأقرب لنا من الجار الأوروبي والشقيق العربي" وقد سمعتُه مرة يشرح للعمة هادية جارتنا نصف البلهاء "الجذور التاريخية" للعلاقة بين المسلمين واليهود ويدعي لها أن فقيها عاش في القرن الثاني أيام الدولة العثمانية !!! كتب رسالة أسماها "الخل الودود في تمجيد اليهود "، دعا فيها إلى التصالح مع "إسرائيل" في عهد شارون !!!
كان من الممكن لصاحبنا أن يُضاجع الفضيلة والرذيلة على فراش واحد..
ولم يكن يجد حرجا أن يُغير مواقفه بمجرد صدور بيان عن الحكومة أوبعد خطاب العرش أو أثناء مناقشة الميزانية العامة للدولة!! أو بعد أي تصريح يُدلي به مصدر مأذون !!
وكان من اليسير علينا أن نتبين الإتجاه العام لسياسة الحكومة من خلال مواقفه وشعاراته بل وحتى من خلال ملابسه وطريقة كلامه: فإذا كان يلبس اللون الأبيض ويبدأ كلامه بالبسملة والحوقلة، فهذا دليل أن العلاقة مع التيارات الإسلامية على أحسن ما يرام وإذا كان يلبس الأزرق ويتودد لأبي علي الميكانيكي فهذا دليل أن العلاقة مع النقابات طيبة وودية أما إذا كان يلبس اللون الكاكي ويتجنب الظهور في مقهى التوهامي اللبان فهذا دليل أن هناك أزمة على الحدود !!!
منذ يومين ودعنا عبد الجبار السعايدي..
كنتُ أحد الذين ساروا في جنازته المهيبة التي لم يشهدها أي مسؤول حكومي !!
كان هناك سؤال حائر يطرق ذهني بقسوة: مع من كان سيقف المرحوم لو قدر له أن يعرف أن الحكومة الرشيدة لم ترسل مندوبا عنها لتأبينه والتعزية بوفاته؟؟