سُجن تشارلز ديكنز مع أبيه وعائلته فكتب روايته الأكبر حجما والأكثر تفاصيلا "Little Dorrit " .. كان يافعا صغيرا بريئا وكانت التجربة قاسية جدّا حتى أنني حسبته ينتقم بالأدب والكتابة. ..بالغ في الوصف والتدقيق وأطال حتّى تكاد وأنت القارئ الحرّ تحسب نفسك سجينا ..ليس سرّا أنّ كلّ أدباء السّجون بالنهاية يحاولون أن نذوق من آلامهم وجراحهم وأن يوثّقوا عذاباتهم وذكرياتهم تلك ..
تساعدهم الكتابة من التخلّص من بعض ثقلها على أرواحهم فتداويها كما يقول مجنون ليلى " وما أكتب الأشعار إلا تداويا " لكنّهم يكتبون أيضا للتوثيق والشهادة والتأريخ أيضا آملين في كشف وفضح الانظمة الجائرة وتعدّيها على كرامة البشر في غيابات السجون .. التحدّي هنا يكون هل يخرج أديب السّجن من سجنه بعمل أدبيّ أم بمخطوطة وقائع ..
هل يكون سجنه سببا في كتم طاقة الإبداع داخله أم يفجّرها ..وكيف سيظهر الفرق بين الأدب والتوثيق .. لقياس ذلك يمكن للنقد الأدبي أن يستخلص ما يراه تبعا لنظرياته ويمكن للمؤرّخين أيضا أن يعملوا على ما يهمهم في هذه المؤلفات السّجنية .. يحتاج هذا وذاك مختصّين بأدواتهم وتحليلاتهم وأحتاج أنا فقط أن أجيب على السؤال " هل سجنني الكتاب أم لا ؟"
لأعرف مدى نجاحه بالنسبة لي .. قرأته في زمن قصير نسبيا وأجبرني على تغيير بعض طقوسي اليومية وبحثت عن سيرة كاتبه بعد سراحه وتاريخ طباعة الكتاب وألممت بدوافعه القديمة والجديدة للكتابة وعن سبب ولادته وعيشه بعيدا عن " عقلة شارن " حيث يفترض أن يكون .. وقرأت كتاباته الجديدة بعد نضجها وتحررها ..
هذا يكفي لأعتبر العمل ناجحا نوعا ما كعمل أدبي سجنيّ ..لا يفترض به أن يكون " أرخبيل الغولاك " لسولجنسيتين السجين الروسي ولا شرق المتوسّط لعبد الرحمان منيف .. هذا كتاب بإمكانيات تلميذ دون العشرين وصدمة صبي حالم واجه واقعا بشراسة زمن تنهار جدرانه السياسية والمجتمعية .. هذا كتاب كالمخاض مشوّش حدّ التكرار الممل لكنّه يولّد مع كل مرّة رؤية وتفاصيل جديدة فرضت عليه ذكرها ..
هذا الكتاب برهن على صدقيّته ووفاءه لتلك التجربة فكان خلاصة ما جرى فعلا وما غاب أيضا .. رابط أساسي بين كل فصوله هو ضمير المخاطب الذي يتوجّه إليه الكاتب غالبا لأنّ ذلك هو الهاجس الأكبر للمساجين ..لا يجدون كليما ومستمعا ومحاورا فيتخيلونه ويصنعون أوهاما كثيرة لمجرّد التسلية وطرد شبح واحد إسمه العزلة ..
ولأنّ الكتاب ينجح أدبيا عندما يسجن القارئ فيجبره على القراءة دون انقطاع وتنجح الوثيقة التاريخية عندما تبرهن عن صدقيّتها وكشفها لحقيقة مخفيّة سأقول نجح كمال الشارني رغم كرهه الصريح لمدينة تاجروين التي أهرب إليها أنا كلّ مساء ..
كانت منفاه ومعتقله فقد جعل فصلا كاملا بعنوان " تاجروين لسنا مسؤولين عن سلامتك" .. يقول كان ذلك مكتوبا على جدرانها يوم وصل مطرودا من الكاف وأقول الزمن كفيل بمحو ما يُكتب على الجدران والقلوب أيضا لكن ليس الكتب.
*حاتم الجباهي : أستاذ و باحث