دخل الحراك الشعبي السلمي، اليوم، جمعته الثانية من عامه الثالث، ورغم كل هذا الوقت الذي مر، لايزال الإصرار الشعبي من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب قائما من أجل فرض ممارسة السياسة بقواعد أخرى غير القواعد التي فرضت تبون في قصر المرادية يوم 12 ديسمير 2019، وهي القواعد التي فرضت كل رؤساء الجزائر منذ صيف 1962 إلى اليوم.
مظاهرات اليوم بينت أن الأغلبية الصامتة التي تحدث عنها مقيم المرادية في آخر خرجة إعلامية له توجد في ميادين الجمهورية وليس في مكاتب المرادية ولا علاقة لها لا بتبون ولا بمن فرض تبون ولا بمن سانده ويسانده.
الأجهزة الحزبية تمارس التضليل وتحارب السياسة…
هذه هي الملاحظة التي يخرج بها كل مراقب لتطور تصريحات وتحركات الأجهزة الحزبية التي لا تزال مهتمة وغارقة في الإنصات لما يحدث في صالونات النظام أكثر من اهتمامها بما يحدث في المجتمع والشارع، لأنها لازالت ترى أن ممارسة السياسة لها علاقة بعصب النظام وشبكاته وليس بتنوع المجتمع بأفكاره وفئاته، كما تختصر السياسة في الانتخابات، وهي تعرف أفضل من غيرها أن الانتخابات تحدد نتائجها مخابر السلطة وليس أصوات الناخبين والناخبات.
مكاتب المرادية فتحت منذ أيام معدودة لاستقبال هذه الأجهزة الحزبية التي تبقى الكثير منها عاجزة عن تعبئة العشرات من مناضليها في قاعات مغلقة، أجهزة تورطت في غالبيتها العظمى في مساندة بوتفليقة منذ فرضه العسكر عام 99 وبقيت إلى آخر لحظة متمسكة بشعرة معاوية مع شبكات بوتفليقة ومع من فرض بوتفليقة على رقاب الجزائريين والجزائريات في أفريل 1999 بتواطؤ الرئيس والجنرال اليمين زروال وبهندسة الجنرال العربي بلخير وتوفيق مدين ودعم مؤكد رغم تأخره من الجنرال خالد نزار…
هذه الأجهزة الحزبية تتكاتف اليوم في مهمة ممارسة التضليل وتحويل النقاش من مطالب الحراك التي تهدف إلى تغيير منظومة التعيين وقواعد ممارسة السياسة، إلى ممارسة التضليل ضد الحراك ومحاولة اختزاله في شعارات تقول إنها راديكالية تعود إلى عشرية الدم، وهو تضليل متوافق مع أجهزة البروباغندا الإعلامية، وهو مؤشر كاف للقول بأن الأجهزة الحزبية غرقت في ممارسة التضليل وفي محاربة ممارسة السياسة التي تسعى الثورة السلمية لإرسائها بعيدا عن فلسفة التعيين والتضليل والريع الذي يلهث وراءه موظفو السياسة…
الأجهزة الحزبية التي حاولت في بداية الحراك تبرير تواطئها مع ترشح بوتفليقة أو سكوتها أو محاولة القول أن الأمر لم يكن يعنيها، عادت لتغرق في صمتها بعد توقف مسيرات الحراك عاما كاملا بسبب الوباء، والذي استغلته السلطة بشكل غير أخلاقي لتكثيف الاعتقالات وقيادة حملات التخويف والتخوين، فلا بيان حزبي يدين الاعتقالات ولا حالات التعذيب والتعنيف التي ندد بها بعض المعتقلين، بل وذهبت بعض الأجهزة الحزبية للقيام بالدور نفسه الذي تقوم بها أجهزة الكذب الإعلامي.
في الوقت الذي كان من المفروض أن يفتح توقيف مسيرات الحراك التفكير العميق في بناء جسور التوافق لممارسة السياسة ومحاربة التضليل الذي يعتبر أحد أدوات استئصال السياسة من المجتمع.
آخر حملات التضليل هذه قادتها أجهزة حزبية اختلفت في لغة الخطاب ولكنها اتفقت في هدفه، فبين من اتهم الحراك بأنه مختطف من العلمانيين، ومن قال انه حراك دشرة ومن قال إن تيارا ظلاميا اختطفه، وهي اتهامات تنفي صحتها هذه التصريحات في حد ذاتها، وهو ما يؤكد أن الغموض و الظلام هو السمة الغالبة لممارسة "البولتيك" لدى قيادات حزبية تجتمع برموز السلطة الفعلية ليلا وتؤدي دور المعارضة نهارا، وتنتظر كوطاتها الانتخابية في كل موسم انتخابي، وهو ما أنتج طبقة من موظفي السياسة الذين يمكنهم أن يمارسوا كل شيء إلا السياسة…
لغة السلمية تنقذ الجزائر من موظفي السياسة..
استمرار الحراك الشعبي بهذا الزخم، كشف عن الرداءة التي سكنت أجهزة السلطة التشريعية والتنفيذية والادارية، كما اظهرت أن الأجهزة الحزبية لا تملك القدرة ولا الأدوات لفهم ما يحدث في المجتمع، في حين أن مقيم المرادية يظهر كل يوم أنه لا يملك الحد الأدنى من الكفاءة السياسية ولا الادارية لتسيير الوضع ناهيك عن ملفه الصحي الذي يبقى سرا محفوظا لدى الدوائر التي فرضته في القصر، وبين هذا وذاك يظهر جليا أن الحراك حركة تاريخية فريدة من نوعها لأمة تتظاهر سلميا في العام الثالث لها، أمام طبقة سياسية لا تملك الحد الأدنى من العقل السياسي، وهو ما قد يعقد الوضع أكثر في مسار التغيير، لأن التغيير لا مفر منه، لأن كلفة عدم التغيير ستكون كبيرة بل وأكبر من كلفة التغيير، فمتى يولد هذا العقل السياسي لتجاوز موظفي السياسة الذين أفسدوا المجتمع ودمروا كل ما تبقى من أجهزة الدولة.
مسار ميلاد هذا العقل السياسي بدأ، مع ملايين الشباب الذين فرضوا لغة السلمية لفرض ممارسة السياسة رغم العنف المادي و الرمزي للمنظومة وتوابعها، وهو مسار طويل لكنه مضمون النتائج لأن فيه وعي كبير للدفاع عن الجزائر ككيان سياسي وقانوني من كل المغامرين ومن جهل موظفي السياسة وعلى كل المستويات.