قالت العرب قديما أن لكل امرئ من اسمه نصيب...كذلك كان لعم "بالصادق" نصيب كبير من الصدق و الكرم الذي لا يضاهيه فيهما رجل ممن عرفت... محمد بن الصادق أو كما يحلو لنا أنا و اخوتي أن نناديه "عم بالصادق" يكون زوج خالتي "علجية"..تلك الخالة الأم التي لو عجنت تراب الأرض لكان ألذ رغيف و لو غزلت شوك الصحراء لخاطت أنعم الثياب...علجية التي تقول فيها أمي دوما "ياخي أنا مرا قدام دادا؟؟تموت النساء بعدها.."
علجية التي تضحك الميت إذا تفكهت و تدير الأعناق و الرقاب إذا حدثت... إذا حدثتك عن زوجها رحمه الله كأنما تحدثك عن الجنة و نعيمها و هي التي تزوجته طفلة في سن الرابعة عشر...كان لها كل شئ أبا و زوجا و خير حافظا…
كنت شبه مقيم بدار خالتي منذ الصغر لا يمر أسبوع دون الذهاب و المبيت عندهم و لا تمر عطلة دون قضاءها معهم ..كانت أمي تغضب أحيانا لكثرة ذهابي بدعوى أني سأضيع دراستي و لن أراجع واجباتي و أن أبي سيغضب ان عاد و لم يجدني ووو لكن يزول كل هذا و يختفي بمجرد دخول بالصادق من الباب...اذا جاء بالصادق فاعلم أن الخير قد حل يأتي بأكياس الحلوى العربي و القْازوزة الحمراء و يتربع في بهو المنزل واضعا لحفته فوق ركبته و يبدأ بتوزيع النقود تساويا بيننا...و من ثمة يخلد لنوم خفيف فوق "بنك الصالة" الخشبي الذي يحمل الى اليوم ذكراه.. كنت أقضي القيلولة تحت رأسه جالسا أنتظر استيقاظه سائلا إياه سؤالي التقليدي "عم بالصادق باش نروحو في التركتور و لا في النقل؟؟" يجيب ضاحكا "حتى تخليك أمك"...يقوم بعدها و أنا أتبعه منتظرا كلمة السر التي يقولها لأمي :"أيا خليه يمشي يبات بركة توة يجيبو فرج ولا الطيب غدوة.."
هناك في بيته أكون سيدا حاكما بأمري أفعل ما أريد و أقول ما أريد و أطلب ما أريد...لا يرد لي طلب أبدا ..كنت إذا ما أكثرت من الدلال و الركاكة غضبت خالتي و هددتني "أيا باش تريض و لا نكلمو النقل يجي يروح بيك؟؟" فيجيبها من غرفته "سيبي الطفل خليه يلعب اذاكا باش نعطيه فاطمة كيف يكبر.."
كان إذا لحق أغنامه أخذني معه "هيا حمودة نلحقْو السعيات"..كان يسبقني في المشي إذا كنا على الطريق و إذا أدركنا أرضا وعرة أو "ربعي" كان يحملني على أكتافه و هو يضحك و يستفزني "لا طلعت شي حكايتك فارغة فيسع تتعب بطلت مانيش عاطيك فاطمة.."
إذا ما مالت الشمس للغروب و أمست نعود خلف الرسلة ركضا و كأن المسافة التي قطعتها ذهابا تقلصت و قصرت إيابا…
نعود و قد أذن المؤذن فنجد الخالة في استقباله "بربعية الماء" و المنشفة أمام الباب فيتوضأ و يصلي و نجتمع حول المائدة تحت ضوء "البريميس و القْازة"..بعدها ينادي بصوته الجوهري على خليفة ابنه "يا خليفة جيب البطرية من التركتور و ايجا خدملنا التلفزة.."
هنا ينتهي يومي مع بالصادق و ألتحق بعلجية و البنات لأكمل السهرية هناك في الكوجينة حيث التاي بالكاكاوية و الغلة و القْوفرات الذي يخبأ لآخر الليل...هنا تحتل علجية المشهد و تبدأ في قص الخرافات و الأحجيات و نحن نستمع بانتباه كأن على رؤوسنا الطير ..خرافات تقول أن حماتها هي التي علمتها إياها و هي صغيرة في سننا…
ينتهي كل الصخب و الضحك إذا ما دخل بالصادق غرفته هناك تنتفض علجية كالقطة و تهرول خلفه لتحضير فراشه و كل ما يلزمه و من ثمة تعود إلينا حازمة "أيا كل واحد يشد مضربو النهار عاهدك بيه طلع.."
هكذا كانت تمر الأيام و الليالي و بالصادق كالجبل الذي يستند إليه الجميع ..كان مضرب مثل في الكرم إذا مر به ضيف هرول إلى الزريبة ليذبح الشاة و يأمر أحدهم لينادي زوجته لتسلخ الشاة و تقطعها و تعد عشاء الضيف "عيط للعيلة تجي تكمل الزقْيطة و اطيب عشاء الضيفان"...حتى نحن إذا ما اجتمعنا لنقضي ليلة عنده كان لا بد له أن يذبح..كانت أمي تلومه "علاش هكا اه بابا محمد؟؟" فيرد ضاحكا :"بكلو من خير ربي موش خسارة في أولادي.."
كان رحمه الله رجلا من زمان آخر كان يحب العلم و الدراسة و حرص على أن يعلم أبناءه رغم بساطته و أميته ..كان ينفق مما يحب و يؤثر على نفسه و لو كانت به خصاصة ..كان شديد الحب لأهله و لوالديه اللذان أكملا بقية حياتهما في حضنه و بين يديه يخدمهما بعينيه و قلبه…
حتى وافاه الأجل في ذات صيف لا ينسى قبل أكثر من عشرين سنة.. لن أنسى أنه مات مبتسما أبيض الوجه و كأنه البدر بين أهله و أبناءه ..يومها بكته الأرض و السماء و كل من يعرفه حتى "السعيات "بكته و أتذكر أنه مات الكثير منها بعده و قد سمعته من الكبار وقتها أن الأغنام إذا مات صاحبها لحقته..
لن أنسى ما حييت بكاء أبي بحرقة و هو واقف على قبره حتى أنني صدمت و أنا الذي أراه يبكي لأول مرة..فسألته مندهشا :"بابا ياخي الرجال تبكي؟؟؟" فأجابني و عيناه تفيضان من الدمع:"أي اه بابا الرجال تبكي على الرجال..".
رحم الله "بالصادق" و طيب ثراه