في فرضيّة الحرب الأهليّة ونتائجه وانعكساتها.
في موجة الانقلابات العسكريّة التي اجتاحت البلدان العربيّة "المستقلّة " مطلع الخميسنات والستينات كان نظام بورقيبة الميّال إلى بناء "الدولة الأمّة" بعيدا عن أعين الجيش وبرعاية فرنسيّة حذرا متوجّسا من تقريب المؤسسة العسكريّة لمناطق الحكم المدني ومواقع القرار السياسي وامتيازاته ورغم محاولة 1962 وأحداث قفصة 1980 فإنّ الجيش التونسي ظلّ بعيدا عن الصراعات السياسية غير منجذب للخوض فيها.
عمل نظام ابن علي على إضعاف المؤسسة العسكريّة من حيث التجهيزات والتدريب والامتيازات ودفع في اتجاه تقوية النظام الأمني "البوليسي" وبذلك بسط سيطرته على كلّ مناحي الحياة طيلة حكم النظام حتّى كانت الثورة التونسيّة.
يبدو أنّ المؤسسة العسكريّة حسمت أمرها بعدم التدخّل لقمع الثورة ومواجهة المحتجين ويبدو أنّ هذا الأمر كان عاملا حاسما في إسقاط رأس النظام وهروبه إلى السعودية مساء 14 جانفي 2011 وماتزال ذاكرة التونسيين تحتفظ بمشاهد كثيرة تظهر احتضان الشعب للجيش في حين سعت المؤسسة الأمنية إلى المصالحة مع الشعب والتأكيد في كل أزمة سياسيّة على العقيدة " الجمهوريّة الوطنيّة " للأمن رغم بعض السلوك السياسي للنقابات الأمنية..
كانت الثورة التونسيّة ديسمبر 2010/جانفي 2011 الشرارة التي ألهبت المنطقة العربيّة وتوالى سقوط الأنظمة وانتفاض الشعوب وتغيّرت مسارات الثورات بتغيّر البلدان والأنظمة التي نشأت في سياقات الانقلابات العسكريّة مثل ليبيا وسوريا واليمن وبدرجة أقلّ مصر.
إنّ استقراء تلك التجارب ينتهي بنا إلى استنتاج عام يفسّر سلوك الجيوش ذات العقيدة "المعسكرة الملتزمة بحماية النظام لا الشعب" حيث تؤول الانتفاضات أو "الثورات" إلى حروب أهليّة (اليمن/سوريا/ليبيا/ العراق ومن الممكن مصر والسودان..) وفي الحروب الأهليّة تنقسم الجيوش وتتحوّل المؤسسة العسكريّة في حدّ ذاتها إلى علامة من علامات الصراع عبر انشقاق الجنود والضبّاط عن المؤسسة العسكريّة النظامية ثمّ تتشّكل بعد ذلك "المليشيات العسكريّة" وفق توزّع مناطقي جغرافي أو قبلي وأحيانا حزبي سياسي.
إنّ القراءة الظاهرة لخطاب السيّد رئيس الجمهوريّة التونسيّة قيس سعيّد منذ توليه الرئاسة ومنذ ظهور بوادر الأزمة السياسية الحادّة بعيد سقوط حكومة الفخفاخ تنتهي إلى تأكيد رغبة الرئيس في إقحام المؤسسة العسكريّة ثم الأمنيّة في الصراع السياسي والمتأمّل في خطاباته مقاما وسجلاّ لغويّا وإيحاءات بيانيّة وخطابيّة تنشدّ للحقل الدّلالي (القتال والانتصار أو الشهادة) وهذه الرغبة الجامحة في جرّ المؤسسة العسكرية ثم الأمنيّة إلى مربّع المعركة السياسيّة لها تكاليفها وأثمانها..
إنّ إغراء الرئيس بانتهاج هذا النهج في معالجة الصراع السياسي الحاد في تونس له عواقبه على الوحدة الوطنيّة والنسيج المجتمعي ومستقبل البلد واستقراره ولئن حاول البعض التأكيد إعلاميّا ومن خلال المنشورات الفايسبوكيّة أو التصريحات الإذاعيّة على جاذبيّة النموذج المصري (انقلاب 2013) باعتباره الشكل الوحيد الممكن للإجهاز على خصم سياسي وإيديولوجي ثبّتت الممارسة الديمقراطيّة حضوره الشعبي نسبيّا فإنّ هذا الإغراء مميت ومكلف وطنيّا
الإسراع في استكمال عناصر المغامرة قد يعصف بكلّ التجربة وقد يعصف بكلّ البلد وأيّا كانت المداخل لخوض مثل هذه المغامرة سواء كان المدخل محاربة الفساد أو إعداد ملفات قضائية أو غيرها من المداخل التي تعطي بعدا "شعبيا" للمغامرة الانقلابيّة..
التحرّك في أرضيّة عسكريّة كاستعمال القضاء العسكري أو كالتأكيد الدائم على أنّ الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلّحة مع تأويل دستوري ألحق من خلاله الرئيس القوات الأمنية إلى قيادته له مخاطره المرعبة وهذا الهوس من طرف الرئيس باستعمال العسكر أو مغازلته لحسم المعركة السياسية سيجرّ البلد إلى دائرة العنف التي ستنتهي إلى حرب أهلية..
فرضيّة الحرب الأهلية في تونس "ممكنة جدّا" لوجود مجموعة من العناصر المغذية لها ومنها:
- انقسام مجتمعي حاد سبّبه الانقسام السياسي وكلّ طرف يقدّم قراءة للمسؤول عن تعفّن الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي فأنصار الرئيس من السياسيين والمواطنين يرون في خصومهم الشرّ المطلق الذي يستوجب الاستئصال ولذلك تتردّد في منشورات الصفحة الرسميّة لرئاسة الجمهوريّة وفي التعليقات عبارات من قبيل "اضرب والشعب معاك.. قيس سعيد قاهر الجرذان والخوانجيّة.. جاكم النهار يا خوانجيّة..) وهي عبارات تحريضيّة لم يلغها المشرف على الصفحة وكأنّها رسالة من الرئيس إلى أنصاره وخصومه..
- خطابات الرئيس المملوءة تحريضا واستعارات حربيّة عبر استحضار القيم الدينيّة للحرب والاستشهاد وعبر الزيارات المتعدّدة للثكنات والمقرّات الأمنيّة.
- خطاب الاستعداد بالنسبة لخصوم الرئيس والتصعيد المنذر ببداية المواجهة ويقين جميع الأطراف أن الحسم عبر المواجهة أضحى ضروريّا بعيدا عن الحوار.
- وجود محاور إقليميّة تغذّي الصراع وتتحكّم في مساراته ونتائجه
إنّ هذه العناصر مجتمعة هي مقدّمات ممكنة لبداية صراع عنيف قد يتحوّل إلى حرب أهليّة وفي هذه الحالة قد تتوجّه الأمور نحو الانقسام الحادّ مجتمعيّا وعسكريّا ومناطقيّا حيث يكتسب الصراع السياسي على نحو ما بعدا جهويّا (ساحل/جنوب) وهذا أمر خطير سيكون نتيجة حتميّة لأي صراع سياسي عنيف.
إنّ أيّ مغامرة تقود إلى حرب أهليّة في تونس ستؤدّي حتما إلى انقسام المؤسسة العسكريّة والأمنيّة وهذا أبلغ الخوف وأخطر الهواجس.
في الحروب الأهلية يفقد المتحاربون السيطرة على مسارات الحرب ويفقدون القدرة على الحسم أو الانتصار وتنتهي دائما بتدخّل الطرف الخارجي المتحكّم منذ البداية في اللعبة والقادر على إيقافها وفق شروط يراها مناسبة لفرض خياراته ومصالحه.
ولذلك من الضروري أن يتوقف الجميع على تجربة مغامرة الحرب أو التسلّي بإمكانيّة حدوثها ترهيبا لخصوم السياسة وشركاء الوطن.
من الضروري أن يتوقف الجميع عن خطاب استمالة المؤسسة العسكريّة والأمنيّة والزجّ بها في أتون صراع عبثّي لا يعني الشعب ولا يغنيه عن مشاكله اليوميّة والحياتيّة.
من الضروريّ أن تستعيد كل الأطراف المتصارعة ما تبقى لها من عقل فمحاورة خصوم السياسة وشركاء الوطن أفضل من محاربتهم وأجدى..
نحن لا نحتاج إلى حرب تشرّد بعضنا وتقتل بعضنا وتترك ثارات لا تمحى وأحقادا لا تنتهي ثمّ يظهر الطرف الدولي تحقيقا للمصالحة كما يحدث في نهاية كلّ حرب أهلية.. نحن نحتاج إلى روح وطنيّة جامعة وقادرة على البناء الوطني..نحن نحتاج إلى الحوار .