حدثني صديق لي سنوات الجامعة كان يدرس في قسم التاريخ و صادف أنه سقط في شهادة من الشهادات في دورة جوان فكان مطالبا أن يعيد الإمتحان في سبتمبر .و إذن فقد قفل إلى بلدته في أقاصي الجنوب الغربي .و استعد للامتحان كما ينبغي الإستعداد كانت الشهادة في التاريخ الوسيط و كان أستاذ المادة الرئيس المرحوم هشام جعيط. و لما آن موعد الإمتحان شد صديقي الرحال إلى العاصمة ليقيم أياما في ضيافة أصدقاء له و أجرى الإمتحان على خير وجه و قفل إلى بلدته فلم يكن من المناسب أن يطيل مكثا لدى أصدقائه وكانوا من الطلبة المعدمين وكفاهم مؤونة الغداء والعشاء و تحمل نفقة العودة إلى بلدته و كان يجد في تدبر معلوم الركوب عنتا.
و اقام في بلدته أياما ينتظر أن يبلغه علم بنتيجة الإمتحان و لكن الصديق الذي كلفه بتبليغه النتيجة قصر و لم يخبر صديقي أنه كان من الناجحين في الكتابي .و مطلع الثمانينات لم تكن هواتف نقالة .بل إن خطوط الهاتف في بلدته معدودة و لعل الصديق أضاع الرقم المطلوب الإتصال به .و أعلنت النتيجة و علق اسم صديقي في قائمة الناجحين و حدد موعد الإختبار الشفوي و عادة لا يكون بينه وبين نتيجة الكتابي إلا الأيام المعدودة .
و أْجْري الإختبار الشفوي و اجتمعت اللجنة للمداولات و علقت النتائج النهائية و صديقي ينتظر خطاب زميله الذي كلفه باستطلاع أمر الإختبار .و قد حاول صديقي في الأثناء الإتصال بإدارة الكلية لما تأخر زميله في خطابه. و حاول اليوم و اليومين المرة و المرات فلم بجد مجيبا و حاول مرات أخرى من مركز البريد الوحيد في البلدة و أخيرا خاطبته موظفة في الكلية لتخبره أن النتائج النهائية للشهادة التي أجرى امتحانها أعلنت منذ زمن .
لقد كان الخبر صاعقا .وضع سماعة الهاتف .و قفل راجعا إلى المنزل .اقترض معلوم الركوب من أحد أصدقائه و ركب الحافلة التي تنطلق ليلا من مركز الولاية إلى العاصمة .لم يكن من المعقول أن يعيد سنة جامعية أخرى من أجل شهادة ما كان أيسر عليه الظفر بها وكان يعرف كلفة الإقامة في العاصمة سنة أخرى و أسرته تنتظر نجاحه و توظيفه و توسعته عليها في الرزق .وصل العاصمة صباحا ،انتظر تنفس الصبح وقصد كلية الآداب 9 أفريل .توجه إلى الكاتب العام و أعلمه المسألة. رد الكاتب العام أن النتائج النهائية أعلنت وعلقت في بهو الكلية و قضي الأمر الذي يستفتي فيه .طلب صديقي هاتف الأستاذ هشام جعيط أستاذ المادة فمكنه الكاتب العام من هاتف جعيط المنزلي…
سجل صديقي أرقام الهاتف . شكرا للكاتب العام صنعه و خرج لا يلوي يبحث عن أول محل تاكسيفون و كان قريبا على يسار الخارج من للكلية .لكنه وجد أن الوقت لايزال باكرا و وجد انه من غير المناسب مخاطبة الأستاذ في تلك الساعة فلم لا يتمهل قليلا حتى يتقدم النهار فكان أن قصد القصبة و عبر المدينة العتيقة وقطع نهج جامع الزيتونة في اتجاه باب البحر .ود لو جلس في قهوة من قهوات باب فرنسا و لكنه ضن بدراهم قليلة يحتسي بها قهوة و ظل في ساحة قهوة دينار و ما حولها في جيئة وذهاب يستعجل الزمن يود لو اقتربت العاشرة وهو الوقت الذي رآه مناسبا لمخاطبة الأستاذ الجليل و ها إن الساعة تنيف على العاشرة فاستجمع أمره و قصد محل تاكسيفون في نهج الجزيرة و ضغط على الأرقام .
كان قلبه يخفق بعنف و أحس قطرات عرق تبلل جبينه و بلغه صوت الأستاذ العظيم يسأل عن المخاطب فعرفه بنفسه فعرفه و كان يعده من الطلبة المجدين .أخبره الخبر قال في اختصار : إنه قدز من بلدته في قرية منسية من قرى الجنوب و أجرى اختبار المادة الشفوي و كلف زميلا له إخباره النتيجة، ولكنه لم يفعل و كان من الناجحين في الكتابي و قد فوت الإختبار الشفوي .و هو لا يدري ما يفعل ؟
عجب الأستاذ للأمر و سأله : و تخاطبني الساعة من أي مكان ؟ رد إنه يخاطب من نهج الجزيرة. قال الأستاذ يمكنك أن تقدم إلى منزلي الساعة !قال صديقي مرتبكا : منزلك ؟ قال : نعم منزلي اركب قطار ال تي جي أم نحو المرسى منزلي في نهج المغرب عدد...أنا في انتظارك .وضع صديقي سماعة الهاتف وانطلق يكاد يعدو في اتجاه المحطة في آخر شارع بورقيبة .اقتطع تذكرته و اتخذ له مقعدا و ظل في حيرة من أمره يتساءل لم يدعوه أستاذه إلى منزله ؟ لو كان يريد اختباره لحدد له موعدا في الكلية فما الذي يمكن أن يصنع في منزل الاستاذ؟
بلغ صديقي منزل الأستاذ و ضغط على الجرس متوجسا . خرج أحد أعوان المنزل مبتسما و قال : مرحبا ، الأستاذ في انتظارك .توجه به نحو مكتب الأستاذ…دخل صديقي متوجسا وغمغم مسلما. فدعاه الأستاذ إلى الجلوس على مقعد أمامه. فجلس فقال له الأستاذ: هل أنت مستعد للإختبار الشفوي؟ فرد صديقي غير مصدق : نعم فقال الأستاذ : إذن خذ ورقة من تلك التي أمامك .فمد صديقي يده وأخذ ورقة وفتحها فوجد فيها سؤالا يتعلق بمسألة من مسائل المادة .
قال الأستاذ: اقرأ السؤال .فقرأ السؤال المكتوب .فقال الأستاذ : إن احتجت وقتا فدونك الطاولة هناك والكرسي لتستعد لكن صديقي رد إن بمقدوره الإجابة فورا .وانطلق يجيب و الأستاذ يومئ برأسه أن تابع .ثم سأله سؤالين اثنين لم يجد صديقي عنتا في الإجابة عنهما .إذاك قال الأستاذ: مبروك سيد .......و اوحى بانتهاء الإختبار .فنهض صديقي غير مصدق أنه اجتاز هذه العقبة و أنه نجح في هذه الشهادة و انزاح عن كتفيه حمل ثقيل و همً شغله .فقام شاكرا مبتسما و غادر المنزل .
ثم إن الأستاذ جعيط رحمه الله أخبر أستاذي المادة اللذين يؤمنان الدروس المسيرة الأمر و دعاهما إلى جلسة مداولات استثنائية لضم صديقي إلى قائمة الناجحين و كان في صدارتها .
كذا يسلك هشام جعيط الإنسان .