دأب قيس سعيد رئيس الجمهورية منذ بداية عام 2021 على خرق الدستور خرقا جسيما وهو الذي كان في مشهد علني بمجلس نواب الشعب بثّته التلفزة الوطنية مباشرة اقسم على احترامه و على احترام تشريع البلاد كما دأب على تعطيل سير عمل مؤسسات الدولة العادي و لاسيما سير المؤسسات الدستورية ثمّ حمّل مسؤولية التعطيل على الدستور و دعا الى استبداله بدستور آخر من خلال ما اعتبره « حوارا » يختار هو المشاركين فيه و يديره بنفسه ويشرف عليه . ومن يرفض هذا « الحوار » مآله قمامة التاريخ حسب عبارة رئيس الجمهورية.
عنوان الازمة السياسية في تونس واضح وهو قيس سعيد رئيس الجمهورية ومن انضم اليه سواء داخل البرلمان او خارجة وساندوه في مواقفه المعطلة لسير مؤسسات الدولة وادعوا مثله ان مشكلة البلاد هي في دستورها ودون أن تكون لهم اية صفة تخول لهم ذلك أسسوا « لجنة» ودعوا إلى تغيير النظام السياسي الحالي باستفتاء يتم خارج أحكام الدستور و في قطيعة كلية مع مؤسسات الدولة.
1- غموض عبارة تغيير النظام السياسي
ان عبارة تغيير النظام السياسي هي عبارة مطلقة و غامضة لم يوضّح الدعاة إليها إن كانوا يريدون بها نظاما رئاسيا على النمط الأميركي يكون فيه رئيس الجمهورية مسئولا أمام الكونغرس او يريدون نظاما على غرار دستور جوان 1959 الذي ركّز كل السلطات بيد رئيس الجمهورية و حوّل الجمهورية الى ملكية في شكل رئاسة مدى الحياة منحها البرلمان الى الرئيس الحبيب بورقيبة و التي أعادها بن علي من خلال استفتاء 2002 وإلغاء تسقيف الترشح الى منصب الرئاسة لأكثر من ثلاث دورات وبذلك فتح الباب لنفسه للترشح دورة رابعة وكان يستعد لتحوير الدستور مرة أخرى لإلغاء حاجز السن وهو 75 سنة للترشح لدورة خامسة والى مدى الحياة لولا أن خلصتنا الثورة منه.
من المعلوم أن الفصل الأول من الدستور غير قابل للتعديل عندما ييتم التنقيح طبق أحكام الفصل هو نفسه لكن من يدري ؟ فهذه الدعوة غير المؤسسة على دستور البلاد و الرامية الى تغيير النظام السياسي تفتح الباب أمام جميع الفرضيات و لا تقف امامها الموانع الدستورية مادامت تحللّت من الدستور فلا شيء يحول اذن دون النظر في تعديل الفصل الأول من دستور 2044 وهو نفس الفصل الأول من دستور 1959 حرفيا.
تثير هذه الدعوة عدّة أسئلة سنقتصر في هذا المقال على واحد منها يتعلق بفرضية إلغاء النظام الجمهوري والعودة إلى الملكية الدستورية على ان نخصص مقالا آخر لموضوع علمانية أو طائفية الدولة التي يطرحها الفصل الاول أيضا.
2 – هل نحافظ على النظام الجمهوري أم نعود الى الملكية؟
– يجدر التذكير هنا ببعض حلقات من تاريخ الدولة التونسية المغيّب فقد كان محمد الامين باشا باي ألقى يوم 15 ماي 1951 خطابا بمناسبة عيد الجلوس اغضب سلطة الاحتلال الفرنسي من اهم ما أكّد فيه هو حق الشعب التونسي ان يستنشق نسيم الحرية و ان يرتوي من مناهل العدل و ان يتمتع بحقوقه الفردية و الجماعية وان يعيش في اطمئنان موفور الكرامة في كنف السيادة القومية الكاملة » ثم اصدر الأمر العلي المؤرخ في 29 ديسمبر 1955 المتعلق بإحداث المجلس القومي التأسيسي و الذي تتمثل مهمته الأساسية حسب صريح فصلة الأوّل في سنّ دستور للمملكة و التزم محمد الامين باشا في الفصل الثالث من هذا الأمر العلي بختم الدستور الموضوع من طرف المجلس وبإصداره كدستور للمملكة لكن كان لهذا المجلس رأي مخالف و اتخذ في جلسته المنعقدة يوم 25 جويلية 1957 قرارات ليست من صلاحياته وهي:
– إلغاء النظام الملكي إلغاء تاما
– إعلان تونس دولة جمهورية
– تكليف « رئيس الحكومة الحبيب بورقيبة بمهام رئاسة الدولة على حالها الحاضر ريثما يدخل الدستور في حيز التطبيق » و أطلق عليه لقب رئيس الجمهورية.
– تكليف الحكومة بتنفيذ هذا القرار
إنّ انتخاب اعضاء المجلس التأسيسي « حسب الاقتراع السرّي المباشر» مكّنه من الانقلاب على السلطة التأسيسية المقيّدة بجعلها سلطة تأسيسية متحررة تماما من اي قيد سابق فخوّل لنفسه الصلاحيات الكافية لسنّ دستور بكلّ حريّة ودون قيد أو شرط فلم يعد يستمدّ صلاحياته من الباي الذي أذن بإحداثه وإنّما من الشّعب الذي انتخبه وأصبح المجلس سيّدا لنفسه يوم 25 جويلية 1957 إعلان الجمهورية ثمّ حرّر دستور سنة 1959 وصادق عليه ولكن الامر العليّ الذي أحدثه بقي ساريا وتمّ التنصيص عليه في القانون الذي ختم به الدستور وصدر وهو « القانون عدد 57 لسنة 1959 لسنة 1959 المؤرّخ في 25 ذي القعدة 1378 و في 1 جوان 1959 في ختم دستور الجمهورية التونسية و اصداره. »
انه ممّا لاشكّ فيه ان إعلان الجمهورية هو خرق صريح لنص الامر العلي المحدث للمجلس القومي التأسيسي و يتجه الاعتذار لمحمد الأمين باي عن المعاملة السيئة التي عاملته بها الجمهورية بعد عزله و يتجه ان تقيم له الدولة جنازة رسمية فهو الذي ختم وثيقة الاستقلال الداخلي.
3 – فشل النظام الجمهوري
– لقد فشل النظام الجمهوري في تحقيق ما وعد به في توطئة دستور جوان 1959 التي فضلته على النظام الملكي و جعلته « خير كفيل لحقوق الانسان و اقرار المساواة بين المواطنين في الحقوق و الواجبات » لكنه لم يسوّ بين المواطنين فلم نر منه سوى الاستبداد والتمييز بين الجهات بتهميش أكثرها لاسيما في الشمال الغربي و الوسط والجنوب الشرقي و الجنوب الغربي التي لم تعرف التنمية رغم انها غنية بالثروات الطبيعية مثل الفسفاط و البترول و الغاز فانتفض الحوض المنجمي عام 2008 و انتفض الجنوب الشرقي خلال سبتمبر و اكتوبر عام 2010 عندما تقررّ احداث معلوم مشط على البضائع التي كانت تمر عبر سوق بن قردان.
– نظام جمهوري اقتصر في انشاء مؤسسات التعليم العالي الصحية – كليات الطب و الصيدلة و الاسنان-علي الشريط البحري بين تونس العاصمة و مدينة صفاقس : كلية بتونس العاصمة و كلية بمدينة سوسة و ثلاثة كليات بمدينة المنستير و كلية بمدينة صفاقس. فكيف يمكن لمواطن يقطن بالشمال الغربي، او بالوسط، او بالجنوب الشرقي ،او الجنوب الغربي ان يرسل ابنته او ابنه لدراسة الطب في مدينة تبعد عن مقر إقامته مئات الكيلومترات بينما مواطن آخر يحتار ابنه في اختيار أية كلية طب يدرس بها فالواحدة منها لا تبعد عن أخرى أحيانا أكثر من عشرين كلم.
عاش النظام الجمهوري في كل عشرية ازمات سياسية خانقة آلت الى محاكمات سياسية صدرت فيها احكام بالإعدام ضد خصوم الحزب الحاكم الذي لم ينج بدوره من صراع الاجنحة ففشلت او أفشلت تجربة التعاضد في الستينات ثم عاشت البلاد الخميس الأسود يوم 26 جانفي 1978 ثم انتفاضة الخبز ديسمبر 1983- جانفي 1984 وهي في جوهرها صراع بين جناحين في الحزب الحاكم و لكن كان ضحاياها مواطنين فقدوا حياتهم في المواجهات مع قوات الامن او القي بهم في السجون و هم يبحثون الى الآن عن التعويض عما اصابهم
ولم ينجو من النظام الجمهوري و من المحاكمات السياسية الصورية رموز النظام نفسه مثل احمد بن صالح و محمد المزالي الذي غادر البلاد خلسة بسبب المحاكمة السياسية التي كانت تدبّر ضدّه.
4 – رئيس الجهورية فوق أيّة مساءلة سياسية او جزائية
– هو نظام جمهوري جعل من رئيس الجمهورية في دستور جوان 1959 فوق أية مساءلة سياسية او جزائية لكن تدارك دستور جانفي 2014 هذا الخطأ الجسيم غير ان قوى الردة تواطأت على وأد المحكمة الدستورية حتى لا يساءل رئيس الجمهورية على خرقه للدستور.
يجدر التذكير هنا بأن المجلس القومي التأسيسي كان أعدّ مسودة للدستور مؤرخة في 9 جانفي 1957 تنص في الفصل الرابع على انّ « الدولة التونسية دولة ملكية دستورية » و تسند للملك دورا تشريفيا و لئن كان يتمتع بالحصانة إلاّ انه تجوز محاكمته اذا اتهم بالخيانة العظمى ثم بعد إعلان الجمهورية اعد المجلس القومي التأسيسي مشروعا للدستور مؤرخا في 30 جانفي 1958 ينص في الفصل 90 على ان « رئيس الجمهورية و اعضاء الحكومة مسئولون عمّا يرتكبونه من الخيانة العظمى و تقع محاكمتهم من طرف المحكمة العليا المنصوص عليها بالفصل 100» والذي جاء فيه أن المحكمة العليا يقع تكوينها « عند اقتراف الخيانة العظمى من طرف رئيس الجمهورية أو أعضاء الحكومة» ولكن دستور جوان 1959 في نسخته النهائية لم يقبل مبدأ مساءلة رئيس الجمهورية فهو الامام المعصوم من الخطأ .وهكذا نص في الفصل 56 على ان المحكمة العليا تتكون « عند اقتراف الخيانة العظمى من احد اعضاء الحكومة ويضبط القانون صلاحيات هذه المحكمة و تركيبها و إجراءاتها».
ظلت هذه المحكمة سيفا مسلطا على وزراء الدولة ورموز النظام الذين يغضب عليهم رئيس الجمهورية فينكل بهم هو نفسه او بطانته التي تستغل اسمه لتصفية صراعاتها عير محاكمات صورية وبواسطة جهاز قضائي تابع بالكلية للسلطة التنفيذية في نظام فاسد هذا بعض من دستور 1959 الذي يريد رئيسنا العودة إليه.
لهذا الاسباب نرى ان الدعوة الى تغيير النظام السياسي خارج إطار الدستور ومن خلال النظر في الفصل الاول سواء من دستور 1959 أو دستور 2014 تكون أولا بالنظر في امكانية الغاء الجمهورية التي لم يثبت لها أي فضل على الملكية الدستورية.
ولنا عودة الى الموضوع للنظر في علمانية الدولة التونسية او طائفيتها دائما من خلال الفصل الأول من الدستور غير القابل نظريا للتعديل.