كلنا نسمع عن ظاهرة الغش الالكتروني او ما يسمّى في الوسط التلمذي ب" التكييت" أي الغش عن طريق استعمال "الكيت"، وهي ظاهرة أصبحت منتشرة بشكل كبير في امتحان الباكالوريا، فأغلب التلاميذ اليوم يعوّلون على "التكييت" في مناظرة الباكالوريا فتجدهم طيلة السنة يركنون الى الكسل ولا يهتمون بإعداد دروسهم ولا يعطون قيمة للتركيز داخل الفصل ولا يولون اهتمام بالدرس ولا بنصائح الأستاذ وتوصياته، يكثرون من الغيابات واللامبالاة، فتجد مستواهم ضعيف ودون المتوسط وعلى اقصى تقدير متوسط لأن التلميذ المتميز والمتعود على التفوق والرتب الأولى، لا يعوّل على الغش بجميع اصنافه بل يعوّل فقط على مجهوده وامكانياته وما يقدم له داخل الفصل بالإضافة الى الدروس الموازية وهذا ما اصبح اليوم ضرورة لكل المتفوقين تفرضها اكراهات الواقع التربوي واشكاليات التوجيه الجامعي في ما بعد، والمستقبل المهني للتلميذ، الأمر اذا عادي ولا يطرح مشكل من جهة المستوى على الأقل بالنسبة للتلميذ المتفوق، لأنه تربّى على تقدير ذاته، والاهتمام بتطوير مستواه دائما ويعمل على ذلك طيلة سنوات دراسته السابقة بالتالي فهو بطبيعته يمتلك قاعدة معرفية وعلمية لابأس بها تمكنه من نجاح مشرّف ومقبول وتؤهله كي يكون طالبا في احدى الجامعات ومختصا في احدى المجالات.
المشكل اذا لا يتعلق بهذه الشريحة من التلاميذ التي أصبحت قلة قليلة مقابل الفئة الأخرى من التلاميذ، فئة الكيت، اذ كيف لهؤلاء التلاميذ الذي افتكّوا نجاحهم بالغش الالكتروني في كل المواد تقريبا، ان يتمكنوا من مواصلة تعليمهم الجامعي في ما بعد بمستوى ضعيف او دون المتوسط؟
الكثير من التلاميذ الذين يلتجئوا للغش سواء نجحوا بمعدلات متوسطة او جيدة سوف يواجهون الكثير من المشاكل والصعوبات في التعليم العالي، صعوبات متعلقة بالمستوى الذي لا يسمح لهم ان يتفاعلوا وينسجموا مع الشعب التي سوف يدرسونها و سيجدون صعوبات كبيرة في الفهم و في الكتابة و في الامتحانات سواء الكتابية او الشفوية لأنهم لا يمتلكون المهارات والاستعدادات الكافية التي تمكنهم من الاستيعاب، لذلك الكثير منهم يعيدون السنة و منهم من يعيد التوجيه ظنا منه بأن سوء اختيار التوجيه هو السبب، واخرين يتركون الجامعة مبكرا و ينخرطون اما في سوق الشغل او القيام ببعض التكوينات المختصة، او الركون للبطالة، ومنهم من يفكر في الهجرة،
كل هذه المشكلات سببها ان نجاحه في الباكالوريا كان دون استحقاق وان الطبيعي هو إعادة السنة واكتساب ما يمكن اكتسابه من تعلمات ومهارات تخول له العبور للجامعة، هذا النوع من التلاميذ تأخذهم روح المغامرة و التحدي لصعاب الباكالوريا ولضعف المستوى، كما تستدرجهم حلاوة النجاح وانتظار الوالدين لمثل هذا الفعل اللاتربوي، فيقعون في فخ الغش الذي قد يدفعون ثمنه من أعمارهم و تفكيرهم ومستقبلهم في ما بعد، وان تمكنوا من النجاح في الجامعة والكثير منهم يتمكن من ذلك فسوف يواجه مشكل عند مواجهة الحياة المهنية، فأغلب القطاعات خاصة القطاعات الخاصة، تراهن ليس فقط على أصحاب الشهائد العليا،
بل تراهن على أصحاب الكفاءات والخبرات والمهارات المهنية، القطاعات الخاصة تفضل الخرّيج الذي يحسن اللغة الانقليزية مثلا بما هي لغة العولمة والسوق والتكنولوجيا، ليس نظريا فحسب بل عمليا وتواصليا، وكذلك الشأن بالنسبة للغة الفرنسية ولكن مع كل اسف اغلب الخريجين، خرّيجو الغش الالكتروني، لا يمتلكون هذه اللغات بشكل جيد ولا يحسنون استعمالها مما يجعلهم معرضون للخيبات والفشل، وان وقع قبولهم سينعكس مستواهم على آدائهم العملي فيكون المردود دون المستوى المطلوب وهو ما يساهم في تخلف الكثير من القطاعات وطرح الكثير من المشكلات سواء مع إدارة المؤسسة او مع المجتمع، هذا فضلا عن المساهمة في ارتفاع نسبة البطالة من أصحاب الشهادات العليا.
الغريب في الامر ان الدولة التي من المفروض تكون اكثر حرصا على تطوير سوق الشغل والمجال المهني بصفة عامة والحد من نسبة البطالة، على دراية تامة بموضوع الغش الالكتروني، ولا تسعى لحل المشكل بطرق جدية بل تكتفي بالتهديدات والعقوبات التي لا يوليها التلميذ ولا المجتمع أي اعتبار، ولو حرصت على ذلك لوجدت الحلول المناسبة والناجعة وهي موجودة بالتأكيد، لكن تكرار هذه الظاهرة منذ سنوات والتي أصبحت متطورة ومتفاقمة وتراخي الدولة امامها، ليس له من معنى سوى ان الدولة مساهمة فيه بدرجة كبيرة ، كيف لا وواقع التعليم متردّي بكل المقاييس خاصة تدني مستوى الجودة الذي اصبح ملحوظا،
كما ان القطاع يعاني الكثير من المشكلات التي أصبحت تطرح بدورها احراجات واكراهات تجعل النجاح الشريف والعادي ليس من نصيب الجميع وان التلاميذ لا يتمتعون بمبدأ تكافئ الفرص على الكثير من الأصعدة ، وانه لا مجال للحديث عن حظوظ متساوية في التعليم واكتساب الكفايات الضرورية للنجاح لكل التلاميذ خاصة عندما يتعلق الامر ببعض الميكانيزمات مثل التفاوت الطبقي بين التلاميذ، والعوامل السوسيوثقافية، والتفاوت بين الجهات، والتفاوت الاقتصادي بينهم، هذه العوامل وغيرها لها تأثير قوي على عدم تكافئ الفرص وخاصة التعليم الموازي الذي يساهم في جودة مستوى شريحة معينة من التلاميذ، التلاميذ "المحظوظون" بلغة بيرنو ، فبقدر ما ساعدهم على تحقيق احلامهم واحلام عائلاتهم، بقدر ما ساهم في تدمير أحلام شريحة أخرى من التلاميذ "غير المحظوظين"،
فالنجاح الاوتوماتيكي غالبا ما يكون من نصيب المحظوظين، وهؤلاء فئة قليلة مقارنة بالأغلبية غير المحظوظة التي يكون مصيرها اما الفشل او النجاح بصعوبة مع معدل متوسط وستكون نسبة النجاح عموما دون انتظارات الدولة التي لطالما راهنت خاصة في العشريتين الأخيرتين على الاحصائيات والأرقام والشعارات الجوفاء والشكليات العامة من اجل تحقيق الكسب السياسي في الداخل والخارج وان كان ذلك على حساب الجودة والمضامين والقيم والمصداقية والمعايير والبرامج والشفافية، فمن الطبيعي اذا ان يفتح باب الغش الالكتروني على مصراعيه للتلاميذ الضعفاء والمتوسطين، عساه يساهم في رفع نسبة النجاح الى المستوى الذي يرضي غرور الدولة، حتى ان كان ذلك على حساب الشفافية والنزاهة والشرف.
لكن ما يثير الاستغراب هو ان المجتمع في ظاهره يرفض ظاهرة الغش الالكتروني و يندد بها في كل مناسبة لكنه في الحقيقة يساهم مساهمة كبيرة في تفشي هذه الظاهرة، أولياء و أقرباء و أساتذة أيضا، الكل حريص على نجاح التلميذ وما دام النجاح هو الغاية فلا يهمّ الوسيلة، حتى ان الاولياء مستعدون لدفع الملايين (قد يصل الدفع الى اكثر من 5 الاف دينار) لمن سيقوم بعملية الاملاء على التلميذ اثناء الامتحان، كما ان بعض المربين مستعدون للقيام بهذا الفعل والمساهمة في عملية الغش مقابل مبلغ من المال، والأكيد ان التلميذ عندما يجد مناخ يسمح له بالغش و يكفيه عناء المذاكرة والتعب فلماذا سيرفض ان كانت علاقته بالمبادئ ضعيفة؟ لماذا سيرفض ان وجد التشجيع على الغش من قبل العائلة؟ لماذا سيرفض ان كان الغش أصبح مباحا وعاديا في مثل هذه الامتحانات بالنسبة للكثير من افراد المجتمع؟
هذه الخطيئة في حق الباكالوريا وقيمتها العلمية والمعرفية لا يتحمل مسؤوليتها التلميذ وحده ... بل تتحملها الدولة بدرجة أولى والأساتذة بدرجة ثانية والمجتمع والاسرة بدرجة ثالثة، ثم يأتي دور التلميذ الذي يريد النجاح دون تعب و دون استحقاق معرفي، وهنا أيضا يمكن الحديث عن ميكانيزم اخر مستحدث يساهم بدوره في عدم تكافئ الفرص حسب منطق المجتمع اليوم اذا اخذنا بعين الاعتبار ان "التكييت" اصبح من المحرمات التي تبيحها الضرورات واننا اصبحنا في زمن الحيلة والتحيل لتجاوز الصعوبات ، وهو انه يوجد نوع من التلاميذ يرفضون الغش الالكتروني اما عن مبدأ او لعدم قدرتهم على دفع المال،
لكن هذه النوعية من التلاميذ بالمقابل تجتهد طيلة السنة وتعمل ما يوسعها من اجل النجاح في الوقت الذي ينعم فيه تلميذ اخر بالراحة لإتكاله على "الكيت" و"المكيت له"، هؤلاء المجتهدون متوسطو المستوى، قد تكون فرصتهم في النجاح اوفر لو كان الامتحان يجري دون غش، اما ان كان الامتحان يخترقه الغش بشكل كبير مثلما يحدث اليوم، فأن فرصة التلاميذ المجتهدين ستقل حتما وسيفقد الكثير منهم حظهم في النجاح،
فنحن نعلم ان النجاح مرتبط بنسب معينة تحددها االوزارة بشكل مسبق ولا تستطيع ان تتحمل فوق طاقة استيعابها، اليس من الظلم ان ينجح صاحب "الكيت" الفاشل بطبعه و يفشل صاحب "المجهود"؟ هل من العدل في دولة الثورة ان يمنح النجاح لمن لا يستحقه ويحرم منه من يستحقه؟ الا يكون للتلميذ الناجح بالكيت قد افتك مكان تلميذ اخر كان سينجح بمجهوده؟ ثم هل ستضاهي فرحة التلميذ الناجح بالكيت فرحة التلميذ الناجح بمجهوده؟
الا يمكن لهذا النجاح المغشوش ان تكون له لعنة تلاحق التلميذ بقية حياته؟