دون الدخول في الجدل حول دستورية القرارات التي اقدم عليها قيس سعيد الاحد الفارط و التي هي في نظري انتهاك لدستور 2014 و انقلاب باستعمال الفصل 80 من الدستور بالرغم من شرعية المطالب الشعبية الداعية للخروج من حالة الانسداد و التعفن التي عرفها البلد في الاشهر الماضية. المهم بعد اسبوع من اصدار القرارات بات من الواضح ان الرئيس في مازق. تأخر الاعلان عن خارطة الطريق يعكس في الواقع هذا المأزق و ابعاده الثلاثة التي يمكن اختزالها في ١. المسالة المالية و الاقتصادية و ٢. التنافس الاقليمي و ٣. امكانية الانقسام الحاد التي تنجر عن مقتضيات المرحلة القادمة.
1. الرئيس في مازق بسبب الوضع الاقتصادي المنهار و مشاكل المالية العمومية. المسار الذي بداه الرئيس لن ينتهي في شهر او اثنين، بل يحتاج الى مدة اطول لتنظيم انتخابات و استفتاء و تغيير النظام السياسي. المعضلة ان زمن الاقتصاد متسارع و الالتزامات المالية تمثل حائطا قد ترتطم به خطط قيس سعيد. باختصار كيف سيجابه قيس سعيد الالتزامات المالية الضاغطة و المستعجلة.
من اين له بأربعة الى خمسة مليار دولار قبل نهاية السنة لضمان حسن سير الدولة و الايفاء بالتزاماتها من اجور و دعم و سداد دين الخ. في مصر دفع الخليجيون بسخاء لضمان استقرار نظام السيسي و لكن طبعا كله بثمنه و شروطهم معروفة. في المقابل فتح الباب على المجهول الدستوري ستكون له تأثيرات على الرزنامة المالية: المفاوضات مع صندوق النقد، قانون الميزانية و تعبئة الموارد. كان البلد يسابق الزمن لتفادي الانهيار صار يسرع الخطى نحو المجهول. الوضعية المالية ستكون بالضرورة محددا اساسيا في مجريات الاحداث. من سيدفع نقدا سيدفع بالبلد في هذا الاتجاه او ذاك. هل نظر في الالتزامات المالية و الاقتصادية قبل الاقدام على خطوته. ان اغفلها ستكون عنصرا ضاغطا بشدة على كل خططه للمستقبل.
2. البعد الثاني للمأزق هو انه بالقرارات التي اقدم عليها، يكون سعيد قد دفع بتونس في قلب التنافس الاقليمي. صار واضحا ان التحركات و الاتصالات الديبلوماسية الاخيرة: زيارة وزراء الخارجية الجزائري و المغربي و السعودي و نائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي و الاتصالات مع الامريكان و الاوروبيين و الفرنسين و اتصالات الاتراك بالجزائريين و التشاور الفرنسي الامريكي، كلها موشرات تدل ان تونس صارت ساحة تنافس اقليمي مفتوحة و انها دخلت المعادلة الاقليمية بقوة. بمعنى ان اي حل في تونس سيكون ايضا نتيجة ترتيبات و تسويات بين هؤلاء.
لم يعد هناك شك ان جزء من اللاعبين الدوليين ربط الساحة الليبية بالساحة التونسية: تعويض الخسائر هناك يمر عبر الضغط هنا و العودة للساحة هناك يمر عبر انفراجة هنا. نحن نعيش بالتالي ارتدادات التدخل العسكري التركي في ليبيا و تراجع المحور الاماراتي الفرنسي هناك و حتى تراجع فرنسا في الساحل. بهذا المعنى هناك لبننة للساحة التونسية. صارت تونس ساحة صراع و ورقة تفاوض. الحل هنا يمر ايضا عبر تسوية تشمل كل الاقليم. محاولات التاثير الدولي ليست بجديدة و تونس لم تكن في معزل عن كل هذه الحسابات لكن يحسب للفاعلين المحليين قبل 25 جويلية انهم نجحوا نسبيا في تحصين الجبهة الداخلية (رفض الباجي لعروض الامارات بإقصاء النهضة بعد انتخابات 2014).
قيس سعيد فتح الباب لان تصير تونس جزء من معادلة اقليمية تتجاوزها و لان تكون جزء من مقايضات و تسويات في ساحات اخرى. كان ممكن تفادي كل هذا بحوار وطني لكن الرئيس رفض الحوار و لعله الان يكتشف ان تونس ليست فقط شانا تونسيا و هو ما اكدته التحركات الديبلوماسية و حتى تصريحات الغنوشي للصحيفة الايطالية البارحة بما معناه تعقيدات الوضع هنا ستصب عندكم في اوروبا. هشاشة وضعنا المالي يجعلنا اكثر عرضة للابتزاز و الاختراق و يضعف الجبهة الداخلية في مقابل حسابات الخارج.
3. عمليا قيس سعيد علّق الدستور و ذهب من حيث لا يعلم الى تدويل الازمة التونسية في ظل هشاشة مالية ضاغطة. هو عمليا انهى الجمهورية الثانية. لكن ماذا بعد ؟ لن يستطيع سعيد بناء جمهورية ثالثة بدستور جديد او حتى دستور معدل لوحده. هو يحتاج في هذا الى جبهة تدعمه او على الاقل للحد من تأثير الجبهة التي ستعارضه صراحة. بناء جبهة الدعم مرتبط بنجاعة ادارته للازمة المالية و الصحية و لموازين القوى الدولية.
هو يحتاج في كل هذا الى ضخّ اموال و الى سيولة و الى تنسيق مع قوى وطنية و دولية للإبقاء على الزخم الشعبي الذي رافق قرارته او في افضل الاحوال للحد من خيبة الامل التي لا مناص منها لدى قطاعات واسعة. البلد يحتاج الى اصلاحات جذرية، الى الغاء الامتيازات و مواقع الريع و اصلاح جذري للمؤسسات العمومية و الى عودة الانتاج.
هي اصلاحات ستثير غضب قطاعات اجتماعية متنفذة: اتحادات الشغل و الاعراف اساسا. هل يمكنه البناء بدون هؤلاء او ضد هؤلاء بدون الدخول في الاكراه. ان نجح فسيكون ذلك حتما على حسابهم و ان فشل فعلى حساب البلد. كل الذين سبقوه فشلوا في ادارة هذه المعادلة. مازق الرئيس يتجاوز شخصه. يتجاوزه ليصير في الواقع مازق البلد.