لا شكّ أنّ التوانسة والعرب عموما هم أكثر شعوب العالم تسيّسا.. والوحيدون الذي يقضّون أوقاتا طويلة في متابعة الأخبار والتحاليل، والإهتمام بكلّ ما يحدث في العالم.. وكثيرا ما تطغى السياسة على جلساتهم ومناقشاتهم، خصوصا بعد الفضائيّات، ثمّ بعد مواقع التواصل الإجتماعي والهواتف الذكيّة..
ومع ذلك نحن ربّما أقلّ النّاس تأثيرا في السياسة وفي الأحداث.. والأخطر من ذلك أنّ فهمنا للسياسة والأحداث محدود جدّا وسطحي جدّا.. وذلك لسببين: أوّلا نحن لا نقرأ، وثانيا نرتكب الخطأ الشنيع بمحاولة فهم السياسة بالإعتماد على الأخبار.. بينما الأخبار لا تمثّل سوى رأس جبل الجليد.. والجزء الأغلب من السياسة مخفي، ولا يُفهَم إلاّ بالقواعد التي تحكم السياسة، وبخلفيّات وحيثيّات الحدث أو القضيّة، والمعطيات والأرقام التي تتعلّق بالحدث أو القضيّة.. ونحن لا نقرأ شيئا من ذلك.. لأنّنا كسالى ذهنيّا، وبالتالي نعتمد كلّيا على الأخبار والتحاليل، التي كثيرا ما تكون سطحيّة ومتضاربة (على طريقة الإتّجاه المعاكس)، لا يخرج منها المتابع بشيء..
مؤخّرا تركّزت أنظار العالم على أفغانستان.. وكالعادة خاض التوانسة والعرب عموما في الموضوع بنفس الطريقة السطحيّة المعتمدة على الأخبار، وبالتالي على القنوات أو المصادر التي يتابعها كلّ شخص..
وهذه محاولة، ليس بالضرورة لتحليل أحداث أفغانستان، ولكن للتأكيد على ضرورة اعتماد منهجيّة مختلفة في متابعة وفهم ما يحدث.. منهجية تبدأ بقراءة ولو مختصرة عن أيّ قضيّة وخلفيّاتها، حتّى لا تكون نقاشاتنا ومواقفنا سطحيّة، وربّما خارجة عن الموضوع ومضحكة، وحتّى لا نكون مجرّد ببغاوات نردّد ما نسمعه..
أفغانستان هي ربّما أعقد قضيّة سياسيّة.. كلّ شيء فيها بالغ التعقيد: التاريخ والجغرافيا والموقع والتركيبة السكّانيّة.. ولا ينفع فيها أبدا الحديث بدون خلفيّة ومعطيّات..
متكوّنة من 14 عرق (انظر الخريطة).. كلّ واحد منها متمركز في منطقة أو مناطق محدّدة.. عدد من هذه الأعراق مثل الطاجيك والأوزبك والتركمان والهزارى لديها امتداد عرقي أو مذهبي في الدّول المجاورة لأفغانستان..
أهمّ عرق فيها هم البشتون، حجما ووزنا، باعتبارهم هم الذين حكموا البلاد في كلّ تاريخها تقريبا.. وطالبان تنتمي إلى البشتون..
البشتون، وكعادة الإستعمار البريطاني، تمّ تقسيمهم بحدّ فاصل بين الهند وأفغانستان في 1893.. ثمّ في 1947، تاريخ تأسيس باكستان التي كانت جزء من الهند، أصبح البشتون منقسمين بين أفغانستان وباكستان.. وكان حكّام أفغانستان البشتون يرفضون ذلك التقسيم، ولديهم مشروع قومي شبيه بمشروع الأكراد في الشرق الأوسط، والذي يمثّل خطرا وتهديدا وجوديّا لباكستان.. ولذلك كانت باكستان دوما حريصة على بقاء أفغانستان ضعيفة وشعبها مشغولا بصراعاته الدّاخليّة..
أفغانستان أيضا، مثل باكستان وسائر دول شبه القارّة الهنديّة، وإيران، فيها انقسام حادّ جدّا بين شرائح متطرّفة في التغرّب وشرائح متطرّفة في المحافظة (أشدّ وأعمق بكثير ممّا تراه في الدول العربيّة).. الشريحة الأولى بريطانية وأمريكية أكثر من البريطانيين والأمريكان، والشريحة الثانية منغلقة تماما ومعزولة عن العالم وعن العصر..
إذا تركنا جانبا ما يقال عن احتمال وجود ثروات طبيعية ضخمة في أفغانستان (أساسا مادّة الليثيوم)، وركّزنا على المعطيات المثبتة، نجد أنّ أفغانستان عانت على امتداد تاريخها ولا تزال من لعنة الجغرافيا، بالإضافة إلى تركيبتها العرقيّة المعقّدة.. موقعها على حدود الصين والإتحاد السوفياتي سابقا، والمتاخم لباكستان والقريب من الهند، جعلها على امتداد تاريخها ساحة حرب بالوكالة بامتياز، وفي قلب الصراع بين الغرب (بقيادة بريطانيا ثمّ أمريكا) وبين المعسكر الشرقي (وعلى رأسه الإتحاد السوفياتي سابقا وروسيا حاليا، والصين).. وأيضا في قلب الصراع بين باكستان والهند..
وفي هذا الإطار خاضت بريطانيا 3 حروب على أفغانستان.. ثمّ تعرّضت أفغانستان للغزو السوفياتي في 1979، واستغلّ الأمريكان الفرصة لاستنزاف الإتحاد السوفياتي الذي استنزفهم من قبل في فيتنام..
من جهة أخرى باكستان والهند بينهما حرب باردة وساخنة مستمرّة.. وكلاهما حاول توظيف أفغانستان.. الهند بتشجيع ودعم مشروع البشتون القومي والشرائح المتغرّبة.. وباكستان بدعم الشرائح المحافظة والجماعات الإسلامية..
التقت مصالح الأمريكان والباكستانيين في دعم الجماعات الإسلامية.. خصوصا وأنّ أفغانستان لها حدود مع كشمير، المنطقة المتنازع عليها وساحة الصراع بين الهند وباكستان.. فكانت الجماعات الإسلامية تقاتل الإتحاد السوفياتي لعشرة سنوات بتسليح وتدريب المخابرات المركزية الأمريكية وبرعاية باكستانية.. وتحقّق لأمريكا وباكستان ما أرادا.. الإتحاد السوفياتي استنزف إلى أن سقط وتفكّك.. والجماعات الإسلامية بطبيعتها غير متحمّسة للمشروع القومي الذي تخشاه باكستان، وبتنوّعها (إذ كانت كلّ جماعة تقريبا تمثّل عرقا) تحول دون توحّد أفغانستان، وتبقيها ضعيفة.. ولذلك وفور هزيمة وخروج الإتحاد السوفياتي من أفغانستان، ودخول تلك الجماعات الإسلامية كابول، دبّت بينها حرب أهليّة طاحنة استمرّت عدّة سنوات..
ومن المعلوم لكلّ مطّلع أنّ طالبان هي صنيعة المخابرات الباكستانية.. باكستان ومن ورائها أمريكا صنعوها أو رعوها (طالبان أصلهم طلبة تلقّوا تعليمهم في المدارس الدينية التقليدية في باكستان).. عندما أرادوا تغيير المشهد في أفغانستان.. يبدو أنّ مصلحة الدولتين التقت في ضرورة وضع حدّ للحرب الأهليّة الطاحنة التي استمرّت من 89 إلى 96، ووجود درجة معقولة من الإستقرار في أفغانستان تحت حكم موالي لباكستان.. فكانت طالبان هي الحلّ.. حركة تأسّست في سبتمبر 94 ب50 طالبا بسيطا في قندهار (مسقط رأس المؤسّس الملاّ عمر).. تمكّنت في شهرين من الإستيلاء على قندهار.. ثمّ بعد شهرين آخرين من الإستيلاء على 12 ولاية أفغانية من مجموع 34 ولاية.. (يعني تماما كما حدث مع داعش في العراق وسوريا).. وبعد سنتين دخلت طالبان كابل وسيطرت على أفغانستان..
باكستان لم تكتف بالدعم المالي واللوجستي والعسكري.. آلاف (بل وعشرات الآلاف) الجنود والكومندوز الباكستانيين كانوا مشاركين في القتال، وعددهم يفوق عدد المقاتلين من طالبان..
أوّل من اعترف بحكومة طالبان في 1996 كانت باكستان، ثمّ السعودية في اليوم الموالي.. ودول الخليج لعبت دورا كبيرا في تنفيذ السياسة الأمريكية في أفغانستان في مختلف المراحل على امتدادا أربعين سنة.. وفي غير أفغانستان..
حكمت طالبان من 1996 حتّى 2001 تاريخ الغزو الأمريكي لأفغانستان، بذريعة أحداث سبتمبر، ورفض طالبان تسليم بن لادن وقيادات القاعدة..
في 2018 بدأت المفاوضات بين أمريكا وطالبان، وتمّ في 2019 الإتّفاق على أن تنسحب أمريكا من أفغانستان في 2021..
غير معلوم بالضبط في أيّ إطار تمّ كلّ ذلك، وما هي بنود الإتفاق الأساسية.. لكن بالتأكيد أنّ المسألة أعقد بكثير ممّا رشح على السطح، تماما كما كان المشهد والترتيبات في 89 أعقد بكثير من مشهد دخول الجماعات الإسلامية كابول في 1989..
بالتأكيد، رفض الأفغان للإحتلال الأمريكي ومقاومتهم له كان عاملا أساسيّا.. كذلك الإنحسار الأمريكي، بعد الفشل الذريع للمشروع الإمبراطوري الذي أعدّه المحافظون الجدد وحاولت إدارة بوش تنفيذه.. وتراجعها عن فكرة الإمبراطورية وعجزها عن تحمّل عبء التوسّع والإنتشار في العالم سبب رئيسي.. وفي هذا الإطار يأتي انسحابها من أكثر من منطقة على الأقل عسكريّا..
وقطعا، الحرب الباردة الجديدة بين أمريكا والصين والقديمة المتجدّدة بين أمريكا وروسيا عامل أساسي وراء الترتيبات الجديدة.. فطالبان عدوّ عقائدي شرس للدّولتين..
هل أمريكا يمكن أن ترعى تنظيما وتوظّفه، ثمّ تتخلّى عنه، ثمّ تحاربه، ثمّ تتفاهم أو حتّى تتحالف معه؟ طبعا.. عادي جدّا.. ذلك ما فعلته وتفعله دائما مع الأنظمة والتنظيمات، بحسب ما تمليه مصلحتها. وعلاقة أمريكا ليس فقط بطالبان، بل أيضا بداعش وبالقاعدة، ملتبسة جدّا.. ولطالما تحرّكت قوافل السيّارات الرّباعيّة لداعش في سوريا والعراق تحت أنظار الطائرات الأمريكية.. وقد نستغرب ذلك لأنّنا نقيس على العقل الفرنسي الذي تحكمه العلمانيّة الفرنسية المعادية للدين وتحكمه العُقد الإستعماريّة.. العقل السياسي الأمريكي ليس برغماتيّا فقط، بل ميكيافيليّا.. أمريكا اغتالت الزعيم الثاني لطالبان، وضغطت على باكستان لاعتقال الزعيم الثالث في 2010.. وبعد 3 سنوات من السجن و6 سنوات في الإقامة الجبرية، ضغطت أمريكا على باكستان لإطلاق سراحه، وهو الذي قاد وفد طالبان في مفاوضات الدوحة مع الأمريكان..
ماذا سيحدث في أفغانستان؟ لا تبدو مرشّحة للخروج من الحروب.. في غياب مؤسّس طالبان ووجود 4 قادة متكافئين في القوّة والنّفوذ.. هل يتكرّر ما حدث مع الجماعات التي قاتلت الإتحاد السوفياتي موحّدة، ثم اندلعت بينهم حرب طاحنة على السلطة بعد الإنسحاب السوفياتي؟ وقد حدث بين أجنحة طالبان صراع عنيف على زعامة الحركة بعد وفاة زعيمها الثاني في 2016.. ماذا عن بقيّة الطوائف والأعراق، وقد بدأت مؤشّرات تمرّد من طائفة الطاجيك، التي تأتي بعد الباشتون من ناحية الثقل، وتمثّل أكثر من ربع السكّان..
أخيرا، ياريت في المستقبل نتخلّص من الكسل الذّهني، ونقرأ ونثقّف أنفسنا بخصوص ما يستجدّ من أحداث وقضايا، ونقلّل من المتابعة السلبيّة السطحيّة، ومن الخوض فيها بدون أيّ خلفيّة أو معطيات.. والمعلومات أصبحت متاحة جدّا، ولا تتطلّب سوى وقت قصير وجهد قليل لتكوين خلفيّة تسمح بفهم ما تحت السطح وما وراء الخبر..
خريطة التوزيع العرقي في أفغانستان