عشية هروب المخلوع حافظت تونس على ا"القليل من الدولة"، وكان ذلك كافيا مع المبادرة الشعبية لنتجنب كارثة التحارب الاهلي. اليوم وبعد عشرية ما بعد الثورة وتجربة ديمقراطية متعثرة في انجازاتها، ومحترمة لأسسها و معاييرها و اطرها، تعمقت أزمة الدولة وتعمقت اكثر جدلية المراوحة التاريخية بين الخوف من حضور الدولة، والرعب من غيابها.
جدل الحضور والغياب للدولة هو التعبير السياسي لجدل تاريخي أعمق بين الحاجة الوجودية للحرية ،والضرورة التاريخية للنظام. يخطأ من يتصور ان الدستور هو الضامن والحل لمسار عودة الدولة للقيام بوظائفها الطبيعية..
مسار استعادة الدولة الى موقعها ووظيفتها في نصاب تعاقدي سويٍّ ومتوازن ، عملية مركبة حد التعقيد يتداخل فيها مدى تخمر عناصر التحول تاريخيا بمحاميلها ولوازمها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية وهي محل حوارية فلسفية ونظرية متجددة في الفضاء الغربي تميل احيانا الى تغليب فكرة مجتمع اللادولة. وتنتصر احيانا لضرورتها كحامل تعديلي مرجعي للاجتماع السياسي.
نفصح التجربة التونسية اليوم كما في كل تجارب التحول التاريخي "الحاد " من دولة الاكراه والعنف الى دولة التعاقد ، أن حالة " الصفر دولةً" غالبا ما تشرع لليأس من طموح تأنيس الدولة وترويضها، وتثير الحاجة الحيوية للأمن على حساب الحربة لتعود الى دورة قمع جديده مسدده بمستند الامن اولا والنظام ثانيا والحرية ثالثا.
سردية الانقلاب الدستوري ليلة 25 جويلية ، استندت على هذه الخلاصة ، و اسست لشرعية الانتصار للدولة.
المفارقة التي تجعل من الصعب لمتوسط الذكاء ان يستوعب شعار انقاذ الدولة الذي هتف به الرئيس ليلتها، ان مسار تفكيك مؤسسات الدولة بسابق اضمار وترصد لم يصدر الا من الرئيس نفسه، وكأنه جاء لقرطاج بأجندة هدم معبد الدولة.
عبث النخب الحاكمة ، وقرف المشهد البرلماني يحيل على محدودية قدرة نخب ما بعد الثورة على ادارة الشأن العام، وهو ما أضر بشكل بالغ بصورة وهيبة الدولة، اما اداء قبس سعيد وَمنذ دخوله قرطاج كان مداره ورهانه تفكيك مؤسسات الدولة ووضعها على الطريق في حالة احتضار او موت سريري.
الرئيس المنتخب بأغلبية تاريخية، بدأ عهدته برفض الاقامة بمقر السيادة، في مشهدية شعبوية بائسة أشرت منذ اليوم الاول عن مدى احترامه لنواميس الدولة، وانتهى في الاشهر القليلة قبل ان يقلب الطاولة على الجميع ليلة 25جويلية ، الى رفض القيام بأبسط واجباته الدستورية تجاه الدولة كختم القوانين المصادق عايها من البرلمان ، ورفض استدعاء الوزراء لاداء القسم أمامه بعد ان اجازهم المجلس التشريعي .
وبين تلك البداية وهذه النهاية صال الرئيس وجال بين الثكنات والمساجد والساحات العامة مرذلا ومخونا و متوعدا بصواريخه ومنصات اطلاقها الجميع ، باستثناء نفسه وشعبه العزيز.
نتبين بعد ستة اسابيع من الانقلاب الدستوري للرئيس ، انه في الحقيقة وبالمحصول ساهم في تدمير "القليل من الدولة"، ليستعيد لعنة لويس الرابع عشر :أنا الدولة.
الدولة التي يقول المؤرخون اما استطونت ارضنا منذ ثلاثة الاف سنة ، لها خبرة طويلة في تاريخها القديم والحديث في استيعاب محاولات اغتصابها وتدميرها، ونهضت في كل مرة كطائر فينيق من رماد حرقها، وقيس سعيد يبدو في خط المقاربة من هذه الزاوية ، لاعبا هاويا يستعيد في حركة بلهوانية غير رشيقة بؤس تمرين اغتصاب الدولة واختزالها في شخصه.
الدولة تجددت شرعيتها تونسيا منذ اواسط القرن التاسع عشر على قاعدة العقد الدستوري ، وتخلصت نظريا من شبقية الملوك والامراء والسلاطين ورغبتهم المتجددة في تجسيدها بدل تمثيلها.
دولة ما بعد الاستقلال تنفست في اتجاه التخلص الشكلي او المنقوص مع بورقيبة و المخلوع من ثقل فكرة التجسيد للدولة، ولم تتحرر من وسادة الاغتصاب الا مع الثورة.
دستور الثورة الذي اعاد توزيع السلطة بين اجهزة الدولة ، كتب بهاجس الحرص على عدم تكرار تمرين تجسيد الدولة سيئ الذكر، فوزع الصلوحيات السيادية التنفيذية رئاسة البرلمان ، ورئاسة الحكومة ، ورئاسة الدولة.
برزت اعطاب النظام البرلماني المعدل منذ العهدة التأسيسية دستورها المصغر الذي كتب بنفس الروحية المنحازة لفكرة تذرير السلطة ، وبرزت اكثر في عهدة الرئيس الباجي قايد السبسي ، و انفجرت اعطابها مع العهدة الحالية.
المتمسكون بدستور الثورة يشددون ان غياب المحكمة الدستورية كهيئة تحكيمية ، هي الحلقة المفقودة في معمودية البناء الدستوري ، و المتحمسون لفكرة الجمهورية الثالثة يردون ان غياب المحكمة الدستورية عنوان لعبثية المسار نفسه و عدم جدية نخب ما بعد الثورة في تجديد شرعية دولة العقد.
قبس سعيد المختص في القانون الدستوري ، ركب حصان اختصاصه الاكاديمي، ليمارس سلطة مرجعية ارثوكسية في تأويل فصول الدستور بما يستجيب لرغبة مزدوجة لديه، يتوزعها جوع احتكار السلطة من جهة ، وطموح سياسي تبشيري بمشروع مجالسي افقه مجتمع اللادولة ، و لنتذكر شعاره الانتخابي "من دولة القانون الى مجتمع القانون"، لنشدد على ان انقلاب ليلة 25 جويلية اسس شرعيته على سردية ود الاعتبار للدولة وهو في العمق محاولة جديدة في مسار تدميرها الاخلاقي والرمزي والعيني في اتجاه تجسبدها في شخص الزعيم الواحد الوحيد الملهم المجسد لكل قيمها ووظائفها.
او لم يخلع سيادة الرئيس بيديه المباركة مبردات تخزين البطاطس…. فما الحاجة للايفياتون؟ ما الحاجة للدولة؟
ليذهب الوحش للجحيم.