شرع المستعرب الفرنسي المعروف كيبيل في بلورة معالم مشروع "إسلام فرنسي"؛ انطلاقا من كتاب "إسلام الضواحي" ووصولا إلى كتاب "الخروج من الفوضى"، تدعو إلى فرض معاملة تميزية تجاه المسلمين، مع إحكام القبضة الأمنية عليهم، باعتبارهم خطرا على المجتمع الفرنسي وعلى القيم الأوروبية. فهل أضحت أفكاره مصدر إلهام لسياسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الحالية تجاه التطرف الإسلاموي؟
تعرض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للكثير من النقد والاستهجان؛ رسميا وشعبيا في العالم الإسلامي، عقب تصريحاته المتوالية عن الإسلام كديانة "مأزومة" عالميا، والمسلمين كجالية "انفصالية" في فرنسا؛ باعتبارهم ثالث أكبر كتلة دينية (8٫8%)، بعد المسيحيين الكاثوليك (41%) واللادينيين (40%). وارتفعت حدة الانتقادات بعد استكمال عرض معالم مشروع "هيكلة الإسلام" داخل فرنسا، التي تضم أكبر جالية للمسلمين في أوروبا، برقم يصل إلى 6 ملايين مسلم، على أن يتم تسويقه مستقبلا نحو بقية الدول، لحل "أزمة" الإسلام بها.
يُقدم ماكرون خطة "إصلاح" الإسلام، أو بالأحرى مساعيه نحو صناعة "إسلام فرنسي" يتوافق مع قيم ومبادئ الجمهورية الفرنسية، على أنها مشروع من بنات أفكار حكومته، حتى يعزز موقعه كزعيم سياسي، يستطيع قيادة أوروبا خلفا للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. لكن الحقيقة غير ذلك، فما يروج له هذا الشاب حديث العهد بالسياسة؛ دون استيعاب لكثير من تفاصيله، أطروحة معينة حول الإسلام من بين أطاريح أخرى، منتشرة في الداخل الفرنسي عن وحول الإسلام.
استعان الرئيس بمشروع المستعرب الفرنسي جيل كيبل، من أجل بلورة خطة لتحديث الإسلام، وتطويع المسلمين للانصهار داخل المجتمع الفرنسي، بلا تحفظات هوياتية أو قيّمية. كان اختيار أطروحة جيل كيبل، الذي يشتغل منذ ثمانينات القرن الماضي، على الإسلام في فرنسا، ضمن قائمة تضم مشاريع أكثر موضوعية و"حيادية"، على غرار ما يطرحه خبراء أمثال: المفكر أوليفيه روا والأكاديمي وفرنسوا بورغا والخبير ستيفان لاكروا والسوسيولوجي آلان جريش والأنثروبولوجي برينو ايتيان…
خطب ماكرون صدى لأفكار المستعرب الفرنسي جيل كيبل...خطة ماكرون أجرأة لأطروحة كيبل
يمارس الرئيس الفرنسي أسلوب التقية، عند كل حديث عن الإسلام والمسلمين، فهو لا يُبدي كل ما قد يكشف الأطروحة التي يعمل على تسويقها، كمشروع من إنجاز حكومته، في تعاملها مع الديانة الإسلامية بفرنسا. لكن معرفة أن حكيم القروي الباحث بمعهد مونتاني، هو من يشغل منصب مستشار الرئيس في قضايا المسلمين، كافية لتأكد من أن الحكومة الفرنسية تحاول اختبار مشروع كلُف صاحبه 35 سنة من الاشتغال، منذ أول كتاب بعنوان "النبي والفرعون" (1984) عن الجماعات الإسلامية المتطرفة في مصر، ثم الكتاب المرجعي "ضواحي الإسلام" (1987)، نظرا لكونه أول دراسة ميدانية حول ظاهرة تطور الإسلام في فرنسا.
تحوّلت خطب ماكرون إلى صدى لأفكار جيل كيبل، فحين يردد أن "الإسلام ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم"، مستعينا بقاموس مفاهيمي غريب عن الساحة السياسية الفرنسية، يصبح مجرد بوق يروج أطروحة، طالما اشتكى صاحبها اللامبالاة التي طالت أعماله حول الإسلام والمسلمين بفرنسا، والتي بلغت مستوى تحفظ صحيفة فرنسية مشهورة عن نشر حوار أجرته مع كيبل.
تعرض مشروع جيل كيبل البحثي لانتكاسة كبرى، بعد كتاب "الجهاد وانحدار الإسلام السياسي" (2000)، حيث اعتبر أن تطرف الحركات الأصولية دليل على فقدان الشعبية والقدرة على الحشد، وعلامة على الأفول والانهيار. لكن هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، فندت هذه الاستنتاجات المتسرعة؛ حتى لا نقول "الانطباعات"، فلا يعقل أن ينفذ من يعيش حالة احتضار، بحسب كيبل، هجمات إرهابية لا مثيل لها في التاريخ.
الباحث الفرنسي المختص في شؤون التطرف أوليفييه روا
أطروحة المفكر الفرنسي أوليفيه روا اُقدم رؤية تركيبية لقضايا المسلمين الراهنة، وأكثر موضوعية قياسا إلى شطحات المستعرب الفرنسي كيبل. فهذا الباحث يقر بأن الحالة الإسلامية في القرن العشرين عبارة عن "هوية تبحث عن ذاتها".
يرى كيبل أن فهم التطرف الإسلامي يستوجب الانطلاق من الإسلام نفسه
جعل كيبل من قراءة النصوص الدينية عماد بناء أطروحته حول الأصولية الإسلامية، معتمدا رؤية وصفية سمتها الاقتراب الواقعي التاريخي، فهو لا يقف كثيرا عند سؤال "لماذا" ولا "كيف"؟ لكون المسألة محصورة في بعدها الأيديولوجي الديني.
يرى كيبل أن فهم التطرف الإسلامي، يستوجب الانطلاق من الإسلام نفسه؛ فهيمنة الخطاب المتمسك بالأصول الدينية، يؤدي إلى انفصال المتطرفين عن مجتمعهم. فالتطرف باختصار، نتاج مشكلة فكرية وثقافية، لها جذورها الدينية والاجتماعية والتاريخية.
لذا، وبغية إصلاح الأمر، شرع في بلورة معالم مشروع "إسلام فرنسي"؛ بدء من كتاب "إسلام الضواحي" وصولا إلى كتاب "الخروج من الفوضى" (2018) مرورا بعنوان أخرى، تدعو إلى فرض معاملة تميزية تجاه المسلمين، مع إحكام القبضة الأمنية عليهم، فهم الخطر الأكبر على المجتمع الفرنسي وعلى القيم الأوروبية. وهذا بالتحديد ما شرع الرئيس في تنزيله منذ أشهر، بتبني حكومته لإجراءات وقرارات ومشاريع قوانين من شأنها تشكيل إسلام على مقاس وهوى ماكرون.
مشروع أوليفيه روا أصلح لماكرون
أوقع ماكرون نفسه في دوامة صراع متجدد، سوف يعدم السبيل للخروج منها مستقبلا، فعلى غرار الارتجالية والاستعجال التي طغت على جوانب من أطروحة كيبل، اختلطت المفاهيم لدى الرئيس الفرنسي، ووجه سهام النقد والتجريح نحو الديانة الإسلامية والتنظيمات الحركية الإسلامية وتدين المسلمين كممارسة. فالحرب على "الإرهاب الإسلامي"، تستدعي وجوبا ضرورة مراجعة وإصلاح الإسلام "المأزوم"، حتى يستجيب لمتطلبات الحياة المعاصرة.
اكتشف الرئيس حجم سقوطه المدوي؛ بسبب أفكار كيبل، بعد تصاعد ردود الأفعال تجاه فرنسا في العالم الإسلامي، وانطلقت الدعاية لحملة تنادي بمقاطعة المنتجات الفرنسية، وتطورت الأمور إلى اعتداءات في الداخل الفرنسي. فما كان من الرجل سوى أن اختار مخاطبة المسلمين، عبر قناة إخبارية عربية، لتقديم توضيحات بشأن سوء الفهم الذي حدث. لكن ماكرون لم يفصح عن الذي أساء الفهم؛ هل هم المسلمون، أم هو الذي لم يستوعب جيدا ما يدافع عنه، أم مشروع جيل كيبل الذي طغى عليه الاستعجال والتسطيح العلمي؟
تسود في الأوساط الفرنسية نزعة شمولية، تسعى بحسب المفكر الفرنسي إيمانويل تود، إلى تحويل الإسلام إلى "رُهاب جماعي". يحاول ماكرون جاهدا استغلال هذه الموجة، باختيار مشروع جيل كيبل؛ من بين رؤى فرنسية أخرى، قصد معالجة قضايا الإسلام والمسلمين. لعل أشهرها أطروحة المفكر الفرنسي أوليفيه روا التي تُقدم رؤية تركيبية للموضوع، وأكثر موضوعية قياسا إلى شطحات كيبل. فهذا الباحث يقر بأن الحالة الإسلامية في القرن العشرين عبارة عن "هوية تبحث عن ذاتها".
صحيح، أن أوليفيه روا اقترب بشدة من أطروحة بكتابه "فشل الإسلام السياسي" (1992)، لكن صعودهم لحظة الربيع العربي اضطره إلى إنتاج مقولة تفسيرية جديدة، طور بها أطروحته أسماها ما بعد الإسلام السياسي؛ أي تجاوز مرحلة الإسلاميين، فهم صاروا جزء من الماضي. بعيدا عن النصوص اعتمد منهجية اللقاء المباشر بالفاعلين، ما مكنه من إدخال تصويبات على أطروحته، قادته إلى الإقرار بأن السلطة في التاريخ الإسلامي كانت علمانية، ولم تكن يوما موضوعا للتقديس.
الأكاديمي والباحث الفرنسي فرانسوا بورغا.
قدم الأكاديمي والباحث الفرنسي فرانسوا بورغا أطروحة موضوعية، أكثر جرأة ودقة في التعاطي مع قضايا الإسلام والمسلمين بفرنسا، لكن ماكرون الذي مثْل انتخابه عنوانا لأزمة سياسية، جسدها نهاية ثنائية اليسار واليمين، لم ولن يعير هذه المشاريع أي اهتمام.
الإرهاب بحسب روا "ليست تطرفا إسلاميا، ولكنها أسلمة للتطرف"
كانت السلطة على الدوام تتكيف مع منظومات سياسية مختلفة، حتى جاءت ظاهرة "الأسلمة" في القرن العشرين، لتطرح نقاش الموازنة بين السياسي والديني. ما يعني أن المشكلة ليست في الإسلام، بقدر ما هي في الأشكال المعاصرة لعودة الديني، فالأصوليون ينظرون إلى الإسلام باعتباره أيديولوجيا تتيح إمكانية ببناء مجتمع إسلامي انطلاقا من الدولة. هكذا، يمكن فهم ظاهرة الإرهاب الذي يرتكب باسم الإسلام، فهي نتاج فشل مشروع إنشاء دولة إسلامية وليست بأي حال جزء من الإسلام. فظاهرة الإرهاب بحسب روا "ليست تطرفا إسلاميا، ولكنها أسلمة للتطرف".
قدم الأكاديمي الفرنسي فرانسوا بورغا بدوره أطروحة موضوعية، أكثر جرأة ودقة في التعاطي مع قضايا الإسلام والمسلمين بفرنسا، لكن ماكرون الذي مثْل انتخابه عنوانا لأزمة سياسية، جسدها نهاية ثنائية اليسار واليمين، لم ولن يعير هذه المشاريع أي اهتمام. فالرجل يدرك جيدا أن "الإسلام" يبقى المفتاح السحري لإلهاء المجتمع الفرنسي عن مشاكله الحقيقة، فقد أضحى التركيز على الإسلام والمسلمين، في الواقع، تعبيرا عن "حاجة مرضية" لدى الطبقة الوسطى والعليا في فرنسا "لكراهية شيء ما أو شخص ما، وليس فقط مجرد خوف من تهديد قادم من قاع المجتمع".