بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، سنة 1945، مرّت الجمهورية الفرنسية في مرحلة طويلة نسبياً من عدم الاستقرار السياسي، وقد شهدت خلال هذه الفترة تشكيل حكومات متعاقبة لمدد قصيرة. كما عَرفت هذه الحقبة حل المجلس النيابي بشكل متكرر مع دعوة لانتخابات مسبقة متتالية.
ووجد الرئيس شارل ديغول، سنة 1958، أن أفضل وسيلة للحد من حالة عدم الاستقرار السياسي القائمة هذه أن يدعو إلى تعديل النظام الانتخابي المعمول به حينئذ.
وبالتالي، وبعد أن كان النظام الانتخابي السائد يعتمد على الأغلبية النسبية، الذي يسمح لكل حزب سياسي بالحصول على مقاعد في المجلس النيابي تتناسب مع عدد الأصوات التي يحصل عليها في الانتخابات عبر قوائم، جرى الانتقال إلى نظام الأغلبية المطلقة والتي تعني بأن يتم التصويت في كل دائرة انتخابية لنائب بعينه وليس لقائمة من المرشحين.
يُشجّع هذا النظام الانتخابي الذي بدأ العمل به، سنة 1958، من حظوظ الأحزاب الكبرى ويُضعف من حظوظ الأحزاب الصغرى ويحرمها بالتالي من الحصول على أصوات كافية تسمح لها بدخول مجلس النواب.
وحده الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران تراجع عن الأغلبية المطلقة وعاد إلى النسبية في انتخابات عام 1986، مما أدى إلى حصول حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف على عدد يبلغ 35 نائباً في مجلس النواب لأوّل مرة في تاريخه.
وبعد عودة اليمين الديغولي إلى الحكومة في مرحلة التعايش، سنة 1988، ألغى العمل بالنسبية متبنياً الدعوة للعودة إلى المطلقة. وبالتالي تراجع اليمين المتطرف في الانتخابات اللاحقة واقتصر على إيصال عدد محدود من النواب إلى المجلس النيابي بما لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.
وفي المشهد السياسي الأوروبي الحالي، ينحصر تطبيق نظام الأغلبية المطلقة على النظامين الانتخابي الفرنسي والبريطاني. ومع ذلك، فلا يوجد زعيم سياسي من اليمين أو من اليسار لا يتطرق في حملته الانتخابية إلى ضرورة تطبيق النسبية ليكون التمثيل البرلماني أكثر عدلاً لتوجّهات المشهد السياسي من دون تطبيق فعلي عند الفوز في الانتخابات، كما جرى مع الرئيس إيمانويل ماكرون في أثناء حملته الانتخابية، سنة 2017.
في الانتخابات التشريعية الفرنسية الأخيرة، ومع عدم تبني النسبية التي ما فتئت الأحزاب الصغيرة نسبياً، وخصوصاً في اليمين المتطرف، أن تطالب بها، وقعت المفاجأة الكبرى حيث حصل حزب "التجمع الوطني" على عدد يبلغ 89 مقعداً في مجلس النواب بعد أن كان عدد ممثليه في المجلس السابق لا يتجاوز 8 نواب.
وللوهلة الأولى، وأمام "عِظَم" هذا الرقم، يمكن للمُلاحظ أن يقع في فخ الظن بأن القاعدة النسبية قد طُبّقت، إلا أن هذا العدد الكبير يُصبح وقعه أشد إيلاماً عندما يتبيّن بأن اليمين المتطرف العنصري والمعادي للإسلام قد حصل عليه بالاستناد إلى النظام الانتخابي التقليدي القائم.
وللمرء أن يتخيّل كم سيكون عليه الرقم إن جرى تطبيق النسبية. فالحزب اليميني المتطرف، له وزن انتخابي هام رغم شبه غيابه عن المشهد النيابي. وقد عكست الانتخابات الرئاسية الأخيرة هذا الوزن، حيث حصلت زعيمته مارين لوبين على عدد كبير من الأصوات خوّلها العبور إلى الجولة الثانية كمنافسة وحيدة للرئيس إيمانويل ماكرون.
المجلس الجديد الذي حصل فيه المتطرفون من اليمين على أكبر عدد من المقاعد في تاريخهم السياسي، تحطّمت فيه مجمل قواعد المعادلات السياسية التقليدية التي سيطرت على المشهد الفرنسي خلال العقود الأخيرة. فبعد أن كانت مقاعد المجلس النيابي تتوزّع بين اليسار واليمين التقليديين مع وجود ضئيل للوسط وللشيوعيين التاريخيين، تراجعت هذه الأحزاب بفعل تقدّم مشروع هجين قدّمه الرئيس إيمانويل ماكرون، في انتخابات 2017، معتمدا على اجتذاب عناصر مؤثرة غير متينة الانتماء من ذات اليسار وذات اليمين.
اليوم، تغيّر الوضع بشكل قوي، حيث عاد اليسار بقوة وحصّل بتحالف غير متماسك على عدد من المقاعد يخوّله أن يُشكل القوة الأولى في المعارضة، وكذا اليمين المتطرف وكذا اليمين التقليدي.
جميع القوى السياسية الفرنسية صارت مشاركة في العملية التشريعية بنسب متفاوتة. وفي الواقع وبعيداً عن الميول الذاتية للاتجاه هذا أو ذاك، وبنظرة موضوعية باردة، يمكن اعتبار أن هذه الانتخابات تقدّم انعكاسا واضحا لمسار ديمقراطي فاعل.
هي إذاً انتصار ديمقراطي تاريخي يقدّم لنا مجلساً معقد التركيب سيكون مساره، إن لم يتم حلّه سريعاً والدعوة إلى انتخابات مسبقة من قبل رئيس الجمهورية كما يسمح الدستور له بذلك، تجربة جديدة في المشهد الفرنسي لم يعهدها الفرنسيون من قبل.
بالمقابل، ومع وجود عناصر متطرفة يمينية فاعلة فيه، ستتأجج الميول المتشددة يساراً لمواجهتها. كما ستميل بعض قوى الوسط أو الاعتدال إلى التمايز بحثاً عن ثغرة تمر من خلالها إلى الشريحة الأوسع، وبالتالي، تميل هي أيضاً إلى التشدّد.
كل ما سبق يدل على أن مجلس النواب الفرنسي الجديد يعكس نجاحاً للعملية الديمقراطية بامتياز، ولكن استمراره ربما يشكّل خطراً بنيوياً على العملية الديمقراطية بحد ذاتها، من حيث تعزيز التطرف والتشدد والإقصاء.