اولا : الاطلاعات:
يستند الأمر الرئاسي عدد 578 المؤرخ في 30 جوان 2022 إلى الدستور ( 27 جانفي 2014 ) وهو أمر مثير للاستغراب لأنه لا شيء في الدستور المذكور يمنح الحق لرئيس الجمهورية لوضع دستور جديد، بل على العكس من ذلك فإن دستور 2014 يجعل الاقدام على هكذا عمل هو عين الخرق الجسيم لأحكامه ما يجعل مرتكب ذلك متلبسا بجريمة تغيير هياكل الدولة و السلط العمومية طبق الفصل 72 من المجلة الجنائية .
كما يستند الأمر 578 إلى المرحوم 117 سيء الذكر و إلى الحوار المزعوم الذي دفع به شبهة الاستبداد، بل و إلى نتائج الاستشارة وهي كلها أمور تؤكد اغراقه في موجات واقع لا يوجد الا في مخيلته.
ثانيا :
التوطئة : كانت أقرب للإنشاء الادبي و الشعري منها للصياغة القانونية فقد كانت طويلة و ممططة و فيها تكرار كثير ( حوالي 50 سطر و 3 صفحات ) وهي تتضمن في جزئها الأكبر رؤية قيس سعيد شخصيا و قراءته الخاصة جدا لتاريخ تونس سيما تاريخها القريب من نظرة عدمية لجميع فترات الحكم التي سبقته خاصة للعشرية السابقة إذ ارتكز على معجم مصطلحاته المعروفة في وصفها و تقييمها و بالمقابل فهو استدعى جميع القوالب الشعبوية عند الحديث عن امجاد الشعب و تضحياته و صعوده الشاهق في التاريخ و عبوره للعالمية في انفجار 17 ديسمبر و تعبيره عن طموحاته الحقيقية في الاستشارة الإلكترونية لبناء تونس الخضراء التي تزداد اخضرارا لينتهي الأمر بالتأكيد على الأمانة المتمثلة في ان من أهم النصوص الدستورية التي استلهم منها هذا الدستور هو الزمام الأحمر التي ذكرت التوطئة انه دستور اسمه الميزان وضعه الشعب في مطلع القرن 17 .
و فيما عدا هذا الأدب الشاعري الذي استغرق 35 سطر من التوطئة تناولت هذه الأخيرة بعض المسائل التي من المشروع إدراجها عادة في مداخل الدساتير الا انها تثير اشكالات منها :
- التأكيد على الانتماء للامة العربية و إلى القارة الأفريقية .
- الا ان هذا الانتماء لا يطال العلاقة بالدين الإسلامي إذ ان علاقة شعبنا به هو مجرد " الحرص على التمسك بالأبعاد الانسانية للدين الإسلامي " فنحن لسنا شعبا مسلما في غالبيته و لا ننتمي للإسلام بصيغة الانتماء للعرب و الافارقة بل تختصر علاقتنا بهذا الدين في التمسك بأبعاده الانسانية العامة لا غير . وهو ما يحيلنا إلى إصرار واضع الدستور على إلغاء الفصل الأول من الدساتير السابقة فلا الدولة دينها الإسلام و لا الشعب دينه الإسلام.
- التأكيد على الشرعية الدولية في نصرة الشعب الفلسطيني . حال ان هذه الشرعية الدولية هي بالذات التي قررت تقسيم فلسطين و اعترفت بالكيان الصهيوني و من ثمة فإن شعار التطبيع خيانة أصبح لاغيا بحكم الدستور لان رفض هذا التطبيع يقتضي بالضرورة عدم الاعتراف مطلقا بالكيان اي التعارض مع القرارات الدولية .
- تتخلى التوطئة عن مبدأ فصل السلط و تستبدلها بالوظائف حال ان الفرق شاسع بين السلطة و الوظيفة لان هذه الأخيرة تكون مسندة و فرعية في حين ان الأولى أصيلة و أصلية و مستمدة مباشرة من طبيعتها الدستورية .و سنلاحظ عند تطرقنا لاحقا لتوزيع الوظائف ان الجهة الوحيدة التي تمثل سلطة حقيقية في هذا الدستور هو رئيس الجمهورية و فيما عداه فهي أجهزة وظيفية لا غير تحت سلطته بأقدار مختلفة …
و قبل المرور لفصول الدستور من الضروري الإشارة إلى رداءة تحرير بعض مواده و عدم تناسقها فيما بينها و كأن محررها يفتقر إلى المعرفة القانونية و نذكر على سبيل المثال و لا الحصر ما يلي في انتظار بيان ذلك لاحقا :
÷ ان الفصل 66 يعيد حرفيا ما جاء في الفقرة الثانية من الفصل 60 " إذا تعذر إجراء الانتخابات بسبب خطر داهم فإن مدة المجلس تحد بقانون " نتساءل كيف لم يقع التفطن لهكذا تكرار .
+ ان الفصل 71 يحدد تاريخ الدورة البرلمانية العادية خلال شهر أكتوبر لكنه لا يذكر تاريخ نهايتها و مدة العطلة النيابية. و لسنا ندري كيف لم يقع التفطن لذلك على اهميته سيما انه خلال هذه العطلة يحل رئيس الجمهورية محل البرلمان بواسطة المراسيم .
+ ان الفصل 86 هو تكرار حرفي لما جاء في إحدى فقرات الفصل 75 (تنظيم العلاقة بين مجلس نواب الشعب و المجلس الوطني للجهات و الاقاليم ) و نتساءل كيف يمكن لطالب سنة اولى حقوق ان يأتي مثل هكذا تكرار لفصول متقاربة من نفس الدستور ؟
+ يتحدث الفصل 91 عن رئاسة مجلس الأمن القومي لكنه لا يذكر تركيبته و اختصاصه أو على الأقل يحيل ذلك لنص آخر سواءا قانون أو مرسوم .لكنه لم يفعل وهو سهو خطير لا يليق برجل قانون .
+ يتعرض الفصل 134 للهيئة المستقلة للانتخابات و لا يتطرق لتركيبتها و لا لكيفية تعيين اعضائها بل لا يحيل هذا النقص لملئه لاحقا بنص آخر وهو أمر محير صدوره عمن له معرفة بالقانون .
+ ينص مشروع الدستور على ان الوظيفة التشريعية تتكون من مجلس نواب الشعب و مجلس وطني للجهات و الاقاليم و يسند اختصاصات لكل واحد منهما لكنه يسكت عن كيفية حل الاشكالات الناجمة عن التنازع المحتمل بينهما في الاختصاصات.
ثالثا : الأحكام العامة .
سنقتصر هنا عما يثير الانتباه بشكل خاص .
1 - جاء في الفصل 5 ان تونس جزء من الأمة الإسلامية. و يجب فهم ذلك في علاقة مع ما وقع ذكره في التوطئة من انتماء الشعب التونسي للامة العربية .و إذن فنحن جزء من الأمة الإسلامية و ننتمي بصفتنا تلك إلى الأمة العربية بما يعني أن الاسبقية في ذلك هو للامة الإسلامية لان علاقتنا بها عضوية(جزء من كل ).
و من الملفت للانتباه كيف يكون شعب ما جزء من أمة إسلامية لكنه يحرص فقط على " التمسك بالأبعاد الانسانية للدين الإسلامي". ثم ما هي هذه الأمة الإسلامية و ما دلالات ان تونس جزء منها .؟
2- كان شعار الجمهورية في دستور 2014 رباعي الأبعاد وهي الحرية و الكرامة و النظام و العدالة لكن الفصل 9 من الدستور الجديد ألغى الكرامة و تبنى شعار دستور 1959 .
رابعا: باب الحقوق و الحريات .
1 - حجر الفصل 41 الاضراب على القضاة و هو أمر يتصل باليات تحجيم القضاء كما سنراه لاحقا .
2- ينص الفصل 44 على " تأصيل الناشئة في الهوية العربية الإسلامية " تماما كما جاء في دستور 2014 لكن المشكلة تكمن في كيفية الربط بين الإصرار على عدم ذكر الدين الإسلامي كدين للدولة أو للشعب أو لتونس من جهة و الحرص على التمسك بالأبعاد الإنسانية للإسلام من جهة ثانية كما جاء في التوطئة و ان تونس جزء من الأمة الإسلامية من جهة ثالثة ثم اننا سنجد ان من شروط الترشح لرئاسة الجمهورية هو ان يكون المترشح مسلما .و نعتقد ان رجال القانون بحاجة إلى فك هذه الإشكالية ذات الاضلع المتناقضة خصوصا في علاقة مع انتظارات بعض دعاة اللائكية .
خامسا : في الوظيفة التشريعية .
نحن إذن نتحدث عن مجرد وظيفة و ليس عن سلطة وهو أمر سنجده مكرسا في الفصول من 56 إلى 89 ذلك ان الطابع المميز لهذه الوظيفة التشريعية هو وقوعها عمليا تحت تغول رئيس الجمهورية مقابل افتقادها كليا لأية آلية تحد من سلطانه فلا وجود لأي فصل أو أي توازن بينهما خلافا لما وقع الإعلان عنه في التوطئة .
فمن الناحية الهيكلية فقد انقسمت التشريعية إلى جزءين و هما مجلس نواب الشعب من جهة و المجلس الوطني للجهات و الاقاليم و هما جهاز ان منفصلان عن بعضهما و هذا الانفصال يراد منه أضعاف مجلس نواب الشعب ليس فقط باشتراط تصويت مجلس الجهات بالموافقة على ما صادق عليه الأول في الذكر في خصوص الميزانية و المسائل الاقتصادية المتصلة بالتنمية بل و أيضا في اشتراط تصويت المجلسين كل واحد بثلثي اعضائه على لائحة اللوم و يضاف إلى ذلك ان أعضاء مجلس نواب الشعب يمكن سحب الوكالة منهم وهذه الامكانية لا يخضع لها أعضاء مجلس الجهات فضلا عن ان عضو مجلس نواب الشعب لا ندري ان كان يمثل كامل الشعب ام لا .
صحيح ان مجلس نواب الشعب اسندت له الاختصاصات التشريعية التقليدية المذكورة عموما في دستور 2014 و ما قبله و ان مجلس الجهات يقتصر دوره على المراقبة و المساءلة فيما يتصل بالأمور التنموية و الاقتصادية العامة الا ان ما يستدعي الحيرة هو هذه العلاقة الغير متوازنة مع رئيس الجمهورية الذي يتمتع بخاصية التشريع بواسطة السلطة الترتيبية العامة ( الأوامر ) في جميع المجالات الواقع اخراجها من اختصاص مجلس نواب الشعب بل أكثر من ذلك و أخطر وهو تمتع الرئيس بسلاح المراسيم التي بواسطتها يمكنه التشريع مكان المجلس سواءا بتفويض من هذا الاخير أو أثناء العطلة النيابية (التي لم يقع تحديدها كما ذكرنا ) أو عند حله للمجلس.
ان الأمر الجديد و المكرس عمليا لسطوة الرئيس على المجلس التشريعي هو انه بإمكانه في كل وقت تنقيح و تعديل القوانين التي سبق للمجلس المصادقة عليها كما نص عليه الفصل 76 فإذا صادق المجلس على قانون ما لم يرق للرئيس فإن هذا الأخير بإمكانه تغيير القانون حسب رغبته و يكفيه لذلك موافقة المحكمة الإدارية. و حسب علمنا لا وجود في الأنظمة المقارنة لهكذا اجراء يجعل المجلس التشريعي مجرد مساعد لرئيس الجمهورية .
و كون تحول مجلس نواب الشعب مساعدا للرئيس يتجلى كذلك في آلية لائحة اللوم .فرئيس الجمهورية كما سنرى هو الماسك الاوحد بالوظيفة التنفيذية فهو الذي يحدد السياسات العامة للدولة و يعين حكومة لتنفيذها تحت امرته و اشرافه الاوحد دون تدخل اي طرف آخر الا انه سيسخر مجلس النواب و مجلس الجهات لمراقبة أعمال هذه الحكومة مكانه، بل و مكن المجلس من إمكانية التصويت على لائحة لوم اولى ضد الحكومة لا تطرح اشكالا خاصا لكن ماذا سيكون الحال إذا تجرأ المجلس على التصويت على لائحة لوم ثانية ؟
نشير هنا إلى أن دستور المخلوع كان ينص في هذه الصورة على استقالة الرئيس وهو أمر طبيعي و منطقي طالما انه مسؤول عن حكومته التي هي مجرد الذراع التنفيذي لسياساته الا ان الأمر على خلاف ذلك هنا لان الفصل 115 يقلب الوضع إذ يبقى الرئيس في مكانه و يكتفي بعقاب المجلسين أو أحدهما حسب مزاجه و ذلك بحل أحدهما أو كلاهما .و هنا يصبح الأمر سرياليا فالمجلس التشريعي لا دخل له في ضبط سياسات الدولة و لا دخل له في تعيين الحكومة أو اعطائها الثقة و لا دخل له في سحب الثقة من هذا الوزير أو ذاك لكنه و إذا رصد كوارث ترتكبها حكومة الرئيس نتيجة السياسات التي اختارها الرئيس بمفرده و أقدم على التصويت على لائحة لوم ثانية فإن مصيره هو الحل و الفناء ممن هو المسؤول الأصلي عن أعمال الحكومة.
اننا هنا في محضر التجسيد الكامل لتغول رئيس الجمهورية و تسخيره ليس فقط للحكومة لتنفيذ خياراته، بل و تسخيره للبرلمان أيضا و في المقابل اسناده حصانة دائمة لا تهتز مهما كان الوضع .
لكن لا بد لنا هنا من التنويه بأن إمكانية حدوث لائحة لوم هو في الحقيقة أمر خيالي ليس فقط لان المجلس سيتجنبها للحفاظ على وجوده، بل و أيضا لان الفصل 115 اشترط حصول أغلبية الثلثين في كل واحد من المجلسين للتصويت على اللائحة.
و على كل حال فإننا بعيدين بفراسخ عن منطق التوازن بين الوظائف لنؤكد على اننا في محضر نظام حكم يتمتع فيه رئيس الجمهورية في المجال التشريعي بسطوة مشهودة منذرة بالانزياح الحتمي إلى الانفراد الحقيقي بمفاصل الدولة فالرئيس هنا هو الشمس و البقية اقمارا تدور حوله وهو ما سيتأكد أكثر عند التعرض لوضعية رئيس الجمهورية في علاقته مع الوظيفة القضائية كما يسميها و في سائر اختصاصاته الأخرى.
- يتبع -