هل للعشرية أكثر من لون ؟ نشر الزميل محمد جويلي مقالا بعنوان ' هل كانت فعلا عشرية سوداء' ؟ '. وهو استفهام إنكاري يشير ضمنيا إلى أنها لم تكن فعلا سوداء فقط كما يردد ويكرر خطاب الكثير من التونسيات والتونسيين، بل هي ذات ألوان متعددة. يقتصر مقال الزميل على وصف مدى انتشار ظاهرة تكرار عبارة ' العشرية السوداء' في المجتمع التونسي. ونظرا لأهمية الظاهرة لمن هو في العلوم الاجتماعية، فإنها تحتاج إلى الفهم والتفسير خاصة بمفاهيم تلك العلوم. نستعمل في المقام الأول هنا مفهومنا ل' الشخصية التونسية المستنفِرة '
المعلم البارز في الشخصية التونسية
فالشخصية التونسية القاعدية هي شخصية مستنفرة السلوك في تعاملها، مع ما نطلق عليه 'التونسي الغريب' أو 'الآخر' أو 'البراني' كما تعبر عن ذلك اللهجة التونسية. يبدو أن كلمة الاستنفار هي أكثر الكلمات دقة في اللغة العربية لوصف الشخصية التونسية القاعدية. فالاستنفار في لغة الضاد تعني شدة النفور أي الجزع والابتعاد اللذين طالما يحدثان في عالم الحيوانات. وهو ما تصوره الآية القرآنية حول حالة استنفار الحمير من الأسود: " كأنها حُمُرُ مستنفرة فرّت من قسّورة ."
فاستعمالنا لنعت 'مستنفِرة' في هذا المقال هو استعمال مجازى يُقصد به القرب من الدقة أكثر ما يمكن من نمط سلوك التونسي العادي أثناء تفاعله واحتكاكه مع التونسي 'الآخر' / 'البرّاني' والذي يعني فقدان الانتماء إلى نفس العرق، أو اللون، أو العائلة، أو القبيلة، أو الجماعة، أو الحزب، أو المنظومة الفكرية. وبعبارة أخرى فالشخصية التونسية القاعدية المستنفرة هي شخصية ينقصها حافز التعاطف والتقارب مع التونسي 'الآخر' (البراني أو الغريب). فسمة الاستنفار هذه تجعل سلوك التونسي في تعامله مع التونسي 'الآخر' يتصف عموما بالحذر والتوتر والخوف والتوجس مما يؤدي إلى حالة من عدم الارتياح الذي يعكس وجود نوع من التشنج الباطني واللاشعوري مع ذلك التونسي' الآخر'.
الشخصية التونسية وسلوكيات العنف
يبدو أن هذه السِّمة الخفية والمستورة (النفور من 'الآخر) مرتبطة شديد الارتباط بظاهرة كثرة السلوكيات العدوانية التي يُعرف بها هذا النمط من التفاعلات الاجتماعية بين التونسيين.. فحضور 'الآخر' (الغريب، البراني) طالما يثير القلق والتوتر والحذر... لدى من لا يعرفون هذا 'الآخر' بالمعنى العام ل'الآخر' المشار إليه.إن تلك الحالات النفسية المتوترة كثيرا ما تكون سببا في ظواهر السلوكيات العدوانية بين الأفراد. هناك اتفاق بين علماء النفس والاجتماع والانثرولوجيا بأنه يوجد في كل مجتمع بشري عدد من السلوكيات المختلفة سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة. ورغم الاختلاف والتعددية في السلوك، فإن الكثير من تلك السلوكيات يمكن إرجاعها إلى بنية المجتمعات أو إلى نمط تركيبة الشخصيات القاعدية السائدة. في تحليلنا لمعالم الشخصية التونسية وجدنا أن ظاهرة العنف فيها تتفرع إلى ثلاثة أنواع :
الشتم والسب
تشير الملاحظات الواسعة والمتكررة أنه يغلب على التونسيين والتونسيات استعداد كبير لنقد بعضهم البعض وتبادل البذاءات الكلامية الكثيرة بينهم مما يجعل هذا السلوك اللغوي العنيف سمة بارزة للشخصية القاعدية التونسية ليس على المستوى الشعبي فحسب وإنما أيضا على مستوى النخب السياسية والثقافية كما يؤكد ذلك المشهد السياسي بعد الثورة التونسية لعام 2011 التي فتحت الأبواب واسعة أمام حرية الرأي والتعبير ونفث ما في عمق النفوس والصدور إزاء التونسي الآخر. فهذه نائبة في المجلس الوطني التأسيسي وصفت بعض التونسيين بأنهم ذباب وها هو رئيس تحرير أسبوعية تونسية يصف لفيف المعارضة بأنهم حمّالة ُ الحطب أمام مسيرة الحكومة. وليس الرئيس قيس سعيد استثناء قبل 25 جويلية وبعده إذ طالما يصف التونسيين المختلفين معه بعدة أوصاف سلبية.
الكلام البذيء
تنتشر ظاهرة الكلام البذيء لدى التونسيين والتونسيات بطريقة اجتماعية واسعة جدا لا تعرفها معظمُ المجتمعات العربية الأخرى. يتمثل هذا النوع من الكلام في استعمال كثير للألفاظ النابية من سب لاسم الجلالة والدين ومن اللجوء المتكرر لاستعمال كلمات وعبارات تقترن بالأعضاء الجنسية/السفاهة لدى الذكور خاصة. أما التونسيات فيساهمن في العنف اللفظي والكلام البذيء في الإفراط في استعمال 'خطاب الدْعا على الآخرين'. يُقر التونسيون وغيرهم بأن الكلام البذيء هو، إلى حد كبير، خاصية تونسية. وصف بيرم التونسي مدينة تونس بأنها المدينة الأولى في العالم في بذاءة الكلام. ومن وجهة نظر علميْ الأنثروبولوجيا والاجتماع، يجوز وصف المجتمع التونسي بأنه مجتمع تسود فيه ثقافة الكلام البذيء. يوجد استعمال كلمات أعضاء الجنس واللّعن لمقدسات الديانات في خطابات الناس العاديين لدى معظم الشعوب. لكن ينفرد المجتمع التونسي عن غيره بمدى كثافة شحن خطابه بمفردات الكلام البذيء.
العنف الجسدي
تصلح ثقافتا الكلام العدواني العنيف والخطاب البذيء لتفسير ظاهرة أخرى يتميز بها كذلك المجتمع التونسي، ألا وهي ظاهرة الانتشار الواسع لاستعمال العنف المادي/الجسدي بين التونسيين خاصة في الشوارع والأماكن العامة. هذه الظاهرة جعلت طالبا تونسيا كان يدرس في بلد لسنوات يلخص شبه انفراد المجتمع التونسي بهذه الظاهرة في قوله: لم أشاهد "عركة" واحدة في الأماكن العامة للبلد الذي أدرس فيه.
لكني رأيتُ بأم عيني عركة عنيفة لما حللتُ بمطار تونس قرطاج. وبعبارة أخرى، يبدو وكأن هناك علاقة ترابط قوية بين كثرة الكلام العنيف و البذيء (كعنصريْن ثقافييْن) واللجوء الشائع إلى استعمال العنف الجسدي ضد الآخرين. وهكذا يتجلى أن ثلاثية معالم العنف في الشخصية القاعدية التونسية تمثل منظومة متكاملة. أي أنه توجد علاقة تفاعلية شبه حتمية بين أنواع العنف الثلاثة المشار إليها.
العشرية السوداء كخطاب عنف
مما لا شك فيه أن ترديد عبارة ' العشرية السوداء' بين كثير من التونسيين والتونسيات حمّال ضمنيا للعنف اللفظي والكلام البذيء اللذين تستبطنهما بقوة الشخصية التونسية القاعدية المستنفِرة مما يجعلها عاجزة كثيرا على التفكير النيّر والتحليل الرصين وتنسيب الأشياء بخصوص الحكم المتعقل على المسار السياسي في العشر سنوات الماضية بعد الثورة.
فالتركيبة النفسية للشخصية التونسية المستنفِرة تفسر ظاهرة ضُعف أو فقدان التونسيين والتونسيات لحب بعضهم البعض الذي يتحدث عنه الناسُ ووسائل الإعلام الأمر الذي جعل الكثيرين يتساءلون لماذا، مثلا، ينسى التونسيون والتونسيات بسهولة الشخصيات التونسية الوطنية المشهورة ؟
فالوضع السياسي التونسي اليوم مخبر لسلوكيات تلك الشخصية المستنفرة بين المعارضة والمناصرين للرئيس قيس سعيد قبل الاستفتاء وبعده. ومن ثم، فخطاب العشرية السوداء والتنمر بين تلك الأطراف السياسية لا يكاد يُرجى الشفاء منه عاجلا أو آجلا لأن جذوره راسخة في طيات التركيبة النفسية للشخصية التونسية المستنفرة.
وما يزيد الطين بلّ أن شخصية الرئيس قيس سعيد مستنفرة من العشر السنوات السوداء ومن جميع الأحزاب بكل أصنافها ومِن ما يسميهم الرئيس التونسيين غير الوطنيين والخونة الخ... وهو سلوك رئاسي يقلده الكثيرون ويقسم في نفس الوقت الشعب التونسي بدلا عن بث الوحدة والتلاحم بين فئاته المتنوعة. بذلك يصبح خطاب 'هم' و'نحن' هو السائد كما هو الحال مع ترديد خطاب 'العشرية السوداء'. فغياب العقل صاحب التحليل الرصين والتصور السليم لأمور لا يساعد بالتأكيد على النجاح في كسب رهان الحوار الوطني الكامل الذي تعرقل الحصولَ عليه كثير من معالم الشخصية التونسية المستنفِرة في القمة والقاعدة ومن بينهما.
براءة ميثاق عالم السياسة من الديمقراطية المغشوشة لعالَم السياسة ميثاق وبنود توجهه وتسيّره يأتي في طليعتها مبدأ أن لا عداوة دائمة بين الأطراف السياسية المتنازعة. تشهد الحرب العالمية الثانية على ذلك.لقد شنت ألمانيا النازية حروبا على معظم الأقطار الأوروبية وغزت البعض منها مثل فرنسا واستعملت الولايات المتحدة الأمريكية القنبلة الذرية ضد اليابان.
فالصداقة منذ عقود بين فرنسا وألمانيا، من جهة، وبين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، من جهة ثانية، تمثل ظاهرة لا تكاد تُصدَّق لأن تلك الدول تمارس بقوة مبدأ لا عداوة دائمة مع الخصم السياسي خارج حدودها ناهيك عن الخصم السياسي داخل حدود الوطن الواحد. فرفع راية العداوة الدائمة للعشرية السوداء يشير إلى جهل بمنطق ميثاق وبنود عالم السياسة في النظم الديمقراطية الحقيقية.
وبالتالي فالكذب واضح وفاضح لمن يدعي الانتماء إلى أخلاق الديمقراطية الصحيحة والرغبة في ممارستها وهو يواصل في نفس الوقت تعنته في المسك بمنجل العداوة المستمرة على العشرية السوداء التي تمثل أساسا عنده حركة النهضة فقط بينما شاركت في الحكم معها أحزاب أخرى مثل نداءُ تونس والتيار الديمقراطي وغيرهما في عشرية الحكم ما بعد الثورة. ويُنتظر أن يكون للشخصية التونسية المستنفِرة دور في مثل ذلك السلوك الجماعي.
وهكذا ، فأصحاب تلك الشخصية الذين يسمون أنفسهم ديمقراطيين أو يدافعون عن منظومة النظام الديمقراطي بحماس هم قوم يحتضنون ديمقراطية مغشوشة يتبرأ منها جنود الديمقراطية السليمة ويقفون سدا منيعا ضد أي خيانة لمبادئها الأصيلة وغش لمنظومة الحكم الديمقراطي التي لا تقبل أبجديتُها العداوةَ الدائمة للخصم.