تحاول هذه الورقة توجيه القرّاء إلى نقطة بعينها، تلك التي يفيض منها سؤال النقاش الدائر حول المنتوجات الفرجوية والأعمال التلفزيونية التي توغّلت في صناعة الانحطاط إذ ليس من مهامّها الآن غير التطبيع مع ما نعيشه من كوارث وغير تجميل الفظيع. ليس المريع في الأمر خطر هذه الأعمال وانعكاساتها السلبية على المجتمع كما يتوهّم البعض، وليس المريع في الأمر إمكانية عودة الرقابة بعد أن تجرّأت بعض الآراء للمناداة بإيقافها، وليس المريع في الأمر شكل النقاش الذي اتخذ حالة من الهستيريا المعمّمة تجاهها. الخطر كلّ الخطر هو أنّها باتت تصنع الحدث الآن، أمّا ما يجري في فلكها فمحاولات بافلوفية لفهمها أو شرحها أو الاعتراض عليها، وهذا ما يجعلها مثابة الثقب الأسود الذي يجرف كلّ شيء في ظلمته دون أن تضاهيه طاقة أو قوّة أخرى: نعم، لقد تورّط الجميع في هذا الحدث الذي تمّت صناعته لأنّه ما من حدث فرجويّ آخر استطاع جلب الانتباه إلى أطروحاته الجمالية والفكرية والثقافية.
إنّ الفراغ هو ما يولّد هذه العفونة الفرجوية التي نشاهدها اليوم تحت مسمّى الدراما التلفزيونية، هو ما يولّد هذا النقاش العقيم، هو ما يولّد معارك الرّعاع لأنّ المسألة الفنية والجمالية لا تستحقّ فعلا اهتماما بما يمكن أن نطلق عليه “الخردة الفنيّة” التي ليس من شأنها غير تدمير عبق الفنّ وتسطير نهايته الفظيعة.
ولكن كيف نوقف تيّار التفاهة هذا؟ كيف نضع حدّا لمسارات التخريب هذه؟ كيف يمكن الاعتراض على الفيروسات الفرجوية تحت مسمّى المسلسلات الرمضانية؟ بماذا نفسّر غياب أعمال درامية في حجم تطلّعاتنا الفكرية والجمالية؟ طبعا، ليست الإجابة متعلقة بانعدام وجود الكتّاب أو المخرجين أو شركات الإنتاج كما يفسّر ذلك البعض من المختصين. المسألة برمّتها متعلّقة باكتساح السوق لعوالم الثقافة، السوق بوصفها مصنعا مرعبا من شأنه سلعنة كلّ شيء، من شأنه تدمير عبق الأيقونة وتبضيعها، من شأنه الاستهلاك لا غير، ومن شأنه إنتاج المسوخ لا أكثر.
نعم، سوف تتواصل رعاية هذا الانحدار العنيف تحت توقيع حفّاري القبور، سوف تتواصل هذه المنتوجات الفرجوية لأنّها وجبة سريعة الاستهلاك، سوف تتمّ عملية رفضها من قبل قلّة من النخبة هم لا يقلّون عنها انحطاطا فكريّا لأنّهم سقطوا في مهنة كلب بافلوف بدل أن ينتجوا مشاريعهم البديلة، سوف تتواصل حفلات العواء باسم هذا النقاش العقيم الذي تمّ تفجيره على يد النقابات والمربّين والمحامين وبعض الإعلاميين والفنانين، سوف يتواصل الرقص على أنقاض هذا الخراب، سوف يتواصل هذا المشهد السيزيفي في كلّ مرّة أمام انعدام وجود مشاريع مغايرة.
ولكن، ماذا عن صمت النقّاد والمختصين؟ لماذا غربت أصواتهم؟ لماذا لم نعد نسمع لهم صوتا في الحياة الثقافية والفنية؟ كيف تمّت عمليّة تقطيع أوصالهم بشطب وجودهم من النقاش الدائر؟
لقد مات هؤلاء. نعم لقد ماتوا جميعا ولم تعد ثمّة غير عظامهم المطحونة طحنا، لقد غربت سلطتهم ولهذا يجب أن تصمت تلك الأطروحة البالية التي تدعو إلى تكميم أفواه عموم الجمهور ومنعه من تقييم الأعمال الدرامية ونقدها. إنّها تدّعي أنّ هذا الأمر يعود إلى النقّاد والمختصّين وحدهم، ولذلك فهي تنشأ كردّة فعل رافضة لهستيريا الآراء التي عجّت بها المحيطات الأقيانوسية في شبكات التواصل الاجتماعي من قبل المشاهدين والمتلقين.
طبعا، ليس من شأننا الآن خوض معركة فكرية أو جماليّة تكنس مواقف العابرين غير المختصين، لأنّه يستحيل اليوم النجاح في ذلك، كما أصبح مستحيلا توجيه مستهلكي تلك الأعمال إلى عمل بعينه. إنّ ما يثير الانتباه هو ذلك الادّعاء الذي يبحث عن سلطة النقّاد مجدّدا، وهو ادّعاء ساذج بإطلاق، فالمرحلة السلطوية غير الديمقراطية التي ينتمي إليها هؤلاء النقّاد انتهت، أمّا دورهم اليوم فشبيه بإقامة باردة في جوف القبور، وما يجري الآن من لغط فعلامة مضيئة ومروّعة على تأبينهم، أمّا تلك الآراء التي يطلقها الجمهور الواسع فغير محتاجة إلى انتظار مدّعي الخبرة الجمالية.
إنّ هذا العواء الجماهيري – الذي يسعى بشكل هستيري إلى تقييم تلك “الخردة الفنّية” المسمّاة دراما تلفزيونية-، لهو أشبه بحفلة رقص بدائيّ على قبور النقّاد المختصين وتوقيع نهايتهم على نحو فظيع وبشع. لقد شاءت “قوى الدمقرطة” توجيه حرابها إلى صدور النقّاد أيضا، ويذكر (رونان ماكدونالد) في كتابه (موت الناقد) أنّ هذا الأمر شهد تسريده منذ حركة 1968 وأحداث انهيار السرديات الكبرى برمّتها.
سوف نتّفق الآن أنّ كلّ شخص تحوّل إلى “ناقد”، يستهلك ما يريده من المنتوج الفرجوي ويقيّمه في الآن نفسه، أو يرفضه لأسباب ذوقيّة خاصّة به. وهنا سوف يُعْتَرَضُ علينا بالقول: كيف يمكن منحه صفة النّاقد؟ ربّ مكر في هذا السؤال سيجعلنا نتخطّاه بسؤال مضادّ: ومن نحن حتّى نهب صفة النّاقد أو ننكرها على الأشخاص؟ أيّها السادة، نحن ليس من حقنا لعب دور الكهّان!