أثناءَ الدّورةِ الرّئيسيّة لامتحان البكالوريا 2023 ورد في اختبارِ العربيّة للشُّعب العلميّة السّؤالُ التّالي: «هل توافقُ الرّأيَ القائل إنّ التّعايشَ الإيجابيّ حاجةٌ فرضتْها ثورةُ المعلوماتِ والاتّصال والتّكنولوجيا؟ اُكتبْ في ذلك فقرةً مِن خمسةِ أسطر. (3ن)». أمّا وثيقةُ "الإصلاح ومقياس إسناد الأعداد" فقد أقرّت الشّروطَ التّالية كي يُحتسَب الجوابُ سليما. إذْ قسمت الإجابةَ إلى ثلاثةِ أجزاء، هي:
1- المسايَرةُ: هي أن يوافقَ المترشّحُ حتما على مضمونِ القولة المطروحة ويحتجَّ لها بما يدعمُها.
2- التّعدِيلُ: هو أن يتّخذَ المترشّحُ مِن تلك القولة موقفا نقديّا جزئيّا لا كلّيّا. فالتّعديلُ ليس مرادِفا للدّحض الشّامل. ثمّ إنّ الدّحضَ، إنْ قُبِل، سيتعارضُ مع قسم المسايرة ويخلقُ تناقضا بين قسميْ الإجابة.
3- الاستِنتاجُ: هو أن يخلصَ المترشّحُ إلى نتيجةٍ "منطقيّة" تؤلّف بين القسميْن السّابقيْن تأليفا لا يُعلي أحدَهما على الآخر.
تعليقا على الاختبارِ وعلى الإصلاح، نطرحُ الأسئلةَ التّالية:
- إنْ كنّا نطلبُ حقّا مِن المترشّح أن يبديَ رأيَه مِن مسألةٍ ما، فكيف نأمرُه بأن يسايرَها؟ وإنْ فهمَ المترشّحُ السّؤالَ فهما حرفيّا (أيْ سليما) ولم يُسايرْ ما طرحْناه لإبداء الرّأي، فبأيِّ حقّ يضيعُ منه نصفُ العدد أو أكثر؟
- إذا لم يتعلّمْ التّلميذُ ثقافةَ إبداء الرّأي الحرّ بلغةٍ سليمة صريحة راقية في رحابِ المؤسّسة التّربويّة العموميّة، فأين سيتعلّمها؟ بين جماهيرِ الملاعب؟ أثناء الإدمانِ على الألعاب الإلكترونيّة؟ في متاهاتِ المواقع الاجتماعيّة؟ مع أصحابِ السّوء التّائهين في ملكوت الله؟…
- إذا طالبْنا المترشّحَ بأن يكتبَ رأيَه الحقيقيّ، ثمّ ألزمناه في مقاييسِ الإصلاح بأن يسايرَ رأيَنا، ألا يُعَدّ ذلك خداعا ومراوغةً بل فخّا فعليّا، والحالُ أنّ الفِخاخَ ممنوعةٌ قانونا في الاختبارات الكتابيّة؟
- إنْ كان مُعِدّو الاختبار والإصلاح لا يعترفون بحقّ المترشّح في التّعبير عن الرّأي الشّخصيّ، ألمْ يكنْ أحرَى بهم، مِن بابِ الأمانة العلميّة والأخلاقيّة، أن يوجّهوه بصريح العبارة إلى دعمِ الأطروحة أو إلى تعديلِها حتّى لا يتيهَ ولا يحرمَ نفسَه مِن نقاط مستحقّة؟
نخلص مِن هذه الاستفهاماتِ الحقيقيّةِ الإنكاريّةِ إلى بعضِ الأفكار العامّة:
- أوّلا: لا يكفي أنّ نصَّ الاختبار، رغم جودةِ أطروحته، مثقَلٌ بعيوبٍ كثيرة (أغلبُ جملِه طويلة معقّدة، أفكارُه متشابهة ومتكرّرة، صياغةُ بعض الأسئلة غامضةٌ ملغِزة، الإخراجُ الطّباعيّ لا يلائم الأجوبةَ المطلوبة…)، لا يكفي ذلك حتّى يأتيَ إصلاحُ "سؤال الرّأي" ظالما مراوِغا. فقد جسّد النّزعةَ الاستبداديّة القهْريّة الطّاغية على المدرسةِ التّونسيّة مذْ كانتْ: أطلبُ منكَ رأيَك الشّخصيّ، لكن أُجبرك في الآن نفسِه على أن تسايرَني رغم أنفك وأن تخرجَ باستنتاج يؤلّف بين موقفيْنا تأليفا يسلبُ منك أيَّ فرصةٍ حقيقيّة للتّعبير عن الرّأي. فليس مِن حقّ التّلميذ، حسَب هذا التّمشِّي الإقصائيّ المتعالي، أن يفكّرَ بعقلِه الخاصّ وأن يقولَ "نعم" أو "لا" بمحضِ إرادته. إنّما هو مُلزَمٌ بالتّفكير على مقاسِ المدرِّس والمصلِح بل على مقاسِ واضعِ الاختبار تحديدا. فنسبةٌ كبيرة مِن المدرّسين يمنحون المتعلّمين فرصةَ التّعبير عن الرّأي شفويّا وكتابيّا دون أن يقصُّوا أجنحتَهم الهشّة.
- ثانيا: ما أشبهَ هذا الاستبدادَ "التّربويّ" بالاستبدادِ السّياسيّ الّذي يراوغ جمهورَ المواطنين بدهاءٍ ترهيبيّ! أُعطيكَ الحقَّ في المعارضةِ الحزبيّة والسّياسيّة شرطَ أن تكون مُواليا لي تسايرُني وتدعمُ برامجي وتجدُ الحجّةَ على وجاهةِ أسلوبي في الحكم. فإنْ لم تفعلْ، ألغيتُ حقَّك في المعارضة بل في الوجود. أمّا في اختبارنا هذا فنحن نوهمكَ، أيّها المترشّحُ الطّامح إلى النّجاح، بأنّنا نمنحُك الحقَّ في التّعبير عن رأيك الخاصّ. بيد أنّنا نُرهبك بسلطةِ العدد كيْ تسايرَ، طوْعا أو كرْها، رأيَنا قبل أن تضيفَ إليه ما تيسّر مِن تعديل لا يخطِّئُه ولا يخطّئُنا. التّرهيبُ هو نفسُه وإنْ تنوّعتْ مجالاتُه وأدواتُه وغاياتُه.
- ثالثا: يثبتُ "فخُّ التّعبير عن الرّأي" أنّ السّلطةَ البيداغوجيّة الّتي تُشرف على إعدادِ الاختبارات ما انفكّتْ، في الأغلبِ الأعمّ، فرديّةَ المنهج والقرار، تحتكرُ الحكمَ على الخطأ والصّواب، وتعيشُ وهمَ امتلاك الحقيقة المطلقة، وتُقصي المدرّسَ مِن عمليّة التّقييم رغمَ كونه الأدرَى بحاجات المتعلِّم وبنقاطِ ضعفه وقوّته. إنّ هذه السّلطةَ الّتي تسبحُ في فلكِ التّنظير (غالبا ما يكونُ تنظيرُها مستوردًا مِن شمال المتوسّط)، تُعاملُ المترشّحين للمناظرات الوطنيّة بنفسِ سياسةِ القمع والقهر والتّعالي الّتي اعتادتْ أن تعاملَ بها المدرّسين خاصّة منهم أولئك الخارجين مِن جلبابها المارقين عن سلطانها المجتهِدين خارج منطقة نفوذها.